[size=18][font=Verdana][b] كامل زهيري.. آخر الموسوعيين العظام.. د. جابر عصفور
لا أظن أنني قابلت، في ميادين الحياة الثقافية المعاصرة، من بهرتني ثقافته الموسوعية أكثر من كامل زهيري الذي غادر حياتنا الفانية في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر الماضي، تاركاً شعوراً فادحاً بالخسارة والحزن على هؤلاء الكبار الذين رحلوا عنا واحدا بعد الآخر، وعلى نحو متتابع.
يشعر المثقف المصري بخاصة والعربي بعامة أن زمن الكبار أوشك على الانتهاء، وأن الثقافة المصرية التي كانت تباهي بأعلامها الكبار والأجيال المتتابعة من روادها العظام قد أصبحت خاوية منهم، وأنها خسرت بفقدهم ما كان يؤكد في الثقافة العربية رحابة الأفق وعمق الرؤى التي تركت في أجيالنا، وسوف تترك في الأجيال اللاحقة بنا، ما يملؤها بالفخر والاعتزاز بالانتساب إلى هؤلاء الكبار الذين أسهموا، على الرغم من تباين اتجاهاتهم، في تكوين وعينا المعاصر، وتطلعنا المتلهف إلى المزيد من المعرفة التي تركوا لنا مهمة المضي فيها بعدهم، والبدء منهم لا على سبيل التكرار أوالتقليد و المحاكاة الساذجة، أوالنسخ الأعمى، وإنما على سبيل الإكمال والإضافة، فقد علمونا أنهم بدأوا من حيث انتهى أساتذتهم، ومضوا في سبيل الإضافة التي وهبوا لها حياتهم، وأن علينا أن نفعل مثلهم ونحمل الشعلة عنهم إلى الأجيال اللاحقة، فنكون أوفياء للتلمذة عليهم، ومواصلين للرسالة النبيلة التي خلفوها أمانة بين أيدينا، تماماً كما فعل جيل كامل زهيري (المولود سنة 1927).
وقد اجتمع كامل زهيري مع عدد من ألمع أبناء جيله في مجلة «روزاليوسف» في الخمسينيات التي كانت لاتزال تحتفظ ببقايا التيار الليبرالي، ممزوجاً بالجديد من التيارات اليسارية الحديثة، والمذاهب الجديدة التي كانت تموج بها أوربا إلى نهاية الأربعينيات والنصف الأول من الخمسينيات، وهي المذاهب التي كانت تعرضها باريس التي أتاحت لعبدالرحمن الشرقاوي وكامل زهيري، بعده، وغيرهما، نافذة واسعة على العالم الرحب الذي خرج من جحيم الحرب العالمية الثانية التي أكملت كوارث الأولى، وجعلتهم مملوئين بحماسة الاكتشاف والتجدد الفكري والتغير الأدبي. وقد تعلم أبناء الجيل الذي ينتسب إليه كامل زهيري تقبل الأفكار الجديدة، ووعيها نقديا بوضعها موضع المساءلة، وكان شعارهم في ذلك: دع كل الزهور تتفتح، واقبل الاختلاف، ولا ترفض الآخر وانطو على وحدة التنوع التي تجمع ما بين معرفة الفنون والآداب، غير مفصولة عن العلوم الإنسانية التي تمثل وحدتها الوجه الآخر من عالم الآداب والفنون. ولذلك، لم يكن من الغريب أن يظهر من أبناء هذا الجيل (المولود أغلبه سنة 1927) من أصبح رائدا لقصيدة العامية الحديثة (فؤاد حداد) وقصيدة الشعر الحر (عبدالرحمن الشرقاوي الذي تبعه صلاح عبدالصبور) والوعي السياسي المغاير (أحمد بهاء الدين) والقصة القصيرة مع الرواية القصيرة (يوسف إدريس). وكان ذلك في مواجهة أخطر عمليات المتابعة للانفتاح الذي شهدته أوربا، وحمل معه مراجعة جذرية للماركسية التقليدية التي لم تخل من طابع ستاليني، وإرهاب جدانوفي، ومن ثم الميل إلى نوع جديد من التروتسكية المفتوحة على أفق واعد، أرساها أمثال روجيه جارودي في فرنسا نفسها، وإيليا إهرنبورج الذي حمل الرياح العفية المنعشة من أوربا الجديدة إلى داخل السور الحديدي للاتحاد السوفييتي، حتى من قبل أن ينشر روايته العلامة «ذوبان الجليد» سنة 1954.
عدوى الأدب
وقد وصل كامل زهيري إلى تجمع «روزاليورسف» بعد رحلة دالة، بدأت بدراسة الحقوق التي أرادها والده طريقا له إلى أكبر المناصب السياسية التي كانت مقصورة، في ذلك الزمان، على أبناء الكلية التي كانت الرحم الذي يولد منه قادة الأحزاب والزعماء السياسيون والوزراء ومن في حكمهم. ولكن كامل زهيري الشاب أدركته عدوى الأدب من قراءة طه حسين وتلميذه محمد مندور اللذين جذباه إلى دنيا الأدب التي مالبثت أن قادته إلى تجمعات السيرياليين في مصر، فعرف رموزها، جورج حنين والتلمساني وأنور كامل وغيرهم من «جماعة الخبز والحرية» و«التطور» فأسهم فيها، وانطوى على شعلة تمردها المقدسة، واكتسب منها محبة الرسم والفنون التشكيلية، والاندفاع صوب الموجات الأدبية والفنية المتمردة على كل قديم جامد. ولذلك، ما إن تخرّج من كلية الحقوق في مايو 1947، وافتتح لنفسه مكتباً للمحاماة، فإنه سرعان ما تركه،ليعمل في إذاعة الهند، ويعيش عجائب هذا البلد الذي ظل ينطوي على حبه لأكثر من عام، واتصلت حباله بحبال «الأهرام» التي أصبح مراسلاً لها في الهند، تلك التي جذبته إلى أسرارها وتاريخها ودياناتها وتنوع فنونها، فعرف طاغور وإقبال قبل أن يعرفهما الكثيرون، وذلك إلى جانب العلاقة التي ربطته بالصحافة، وكانت بدايتها الأهرام التي استطاع أن ينشر فيها «خبطات» صحفية، مكنه منها أصدقاؤه المسئولون الكبار في الهند. ولكنه لم يلبث أن اكتفى من حياته في الهند، فقرر الرحلة إلى عاصمة النور التي كان يحلم بالحياة فيها، خصوصا «الحي اللاتيني» الذي يقع السوربون في القلب منه، فحمل حقيبته وأحلامه وذهب إلى «فترينة الدنيا» التي أغواه بها توفيق الحكيم، وقبله هيكل وطه حسين، ماضياً في الطريق نفسه الذي مضى فيه عبدالرحمن الشرقاوي، لكن مع اختلاف التوجه والمطامح.
ووصل كامل زهيري إلى باريس، وأصبح «الحي اللاتيني» فضاءه الأثير الذي لا يتركه إلا ليعود إليه، ولا يهجره إلى غيره، كالعاشق الذي قرر عدم مفارقة معشوقه. وهو يصف حياته في الحي اللاتيني، في أواخر الأربعينيات في أكثر من كتاب له، وأهمها كتابه «الغاضبون» الذي أنقل عنه قوله: «فرنسا عندي هي باريس، وباريس هي الحي اللاتيني».
ذكريات في باريس
لا أظن أنني قابلت، في ميادين الحياة الثقافية المعاصرة، من بهرتني ثقافته الموسوعية أكثر من كامل زهيري الذي غادر حياتنا الفانية في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر الماضي، تاركاً شعوراً فادحاً بالخسارة والحزن على هؤلاء الكبار الذين رحلوا عنا واحدا بعد الآخر، وعلى نحو متتابع.
يشعر المثقف المصري بخاصة والعربي بعامة أن زمن الكبار أوشك على الانتهاء، وأن الثقافة المصرية التي كانت تباهي بأعلامها الكبار والأجيال المتتابعة من روادها العظام قد أصبحت خاوية منهم، وأنها خسرت بفقدهم ما كان يؤكد في الثقافة العربية رحابة الأفق وعمق الرؤى التي تركت في أجيالنا، وسوف تترك في الأجيال اللاحقة بنا، ما يملؤها بالفخر والاعتزاز بالانتساب إلى هؤلاء الكبار الذين أسهموا، على الرغم من تباين اتجاهاتهم، في تكوين وعينا المعاصر، وتطلعنا المتلهف إلى المزيد من المعرفة التي تركوا لنا مهمة المضي فيها بعدهم، والبدء منهم لا على سبيل التكرار أوالتقليد و المحاكاة الساذجة، أوالنسخ الأعمى، وإنما على سبيل الإكمال والإضافة، فقد علمونا أنهم بدأوا من حيث انتهى أساتذتهم، ومضوا في سبيل الإضافة التي وهبوا لها حياتهم، وأن علينا أن نفعل مثلهم ونحمل الشعلة عنهم إلى الأجيال اللاحقة، فنكون أوفياء للتلمذة عليهم، ومواصلين للرسالة النبيلة التي خلفوها أمانة بين أيدينا، تماماً كما فعل جيل كامل زهيري (المولود سنة 1927).
وقد اجتمع كامل زهيري مع عدد من ألمع أبناء جيله في مجلة «روزاليوسف» في الخمسينيات التي كانت لاتزال تحتفظ ببقايا التيار الليبرالي، ممزوجاً بالجديد من التيارات اليسارية الحديثة، والمذاهب الجديدة التي كانت تموج بها أوربا إلى نهاية الأربعينيات والنصف الأول من الخمسينيات، وهي المذاهب التي كانت تعرضها باريس التي أتاحت لعبدالرحمن الشرقاوي وكامل زهيري، بعده، وغيرهما، نافذة واسعة على العالم الرحب الذي خرج من جحيم الحرب العالمية الثانية التي أكملت كوارث الأولى، وجعلتهم مملوئين بحماسة الاكتشاف والتجدد الفكري والتغير الأدبي. وقد تعلم أبناء الجيل الذي ينتسب إليه كامل زهيري تقبل الأفكار الجديدة، ووعيها نقديا بوضعها موضع المساءلة، وكان شعارهم في ذلك: دع كل الزهور تتفتح، واقبل الاختلاف، ولا ترفض الآخر وانطو على وحدة التنوع التي تجمع ما بين معرفة الفنون والآداب، غير مفصولة عن العلوم الإنسانية التي تمثل وحدتها الوجه الآخر من عالم الآداب والفنون. ولذلك، لم يكن من الغريب أن يظهر من أبناء هذا الجيل (المولود أغلبه سنة 1927) من أصبح رائدا لقصيدة العامية الحديثة (فؤاد حداد) وقصيدة الشعر الحر (عبدالرحمن الشرقاوي الذي تبعه صلاح عبدالصبور) والوعي السياسي المغاير (أحمد بهاء الدين) والقصة القصيرة مع الرواية القصيرة (يوسف إدريس). وكان ذلك في مواجهة أخطر عمليات المتابعة للانفتاح الذي شهدته أوربا، وحمل معه مراجعة جذرية للماركسية التقليدية التي لم تخل من طابع ستاليني، وإرهاب جدانوفي، ومن ثم الميل إلى نوع جديد من التروتسكية المفتوحة على أفق واعد، أرساها أمثال روجيه جارودي في فرنسا نفسها، وإيليا إهرنبورج الذي حمل الرياح العفية المنعشة من أوربا الجديدة إلى داخل السور الحديدي للاتحاد السوفييتي، حتى من قبل أن ينشر روايته العلامة «ذوبان الجليد» سنة 1954.
عدوى الأدب
وقد وصل كامل زهيري إلى تجمع «روزاليورسف» بعد رحلة دالة، بدأت بدراسة الحقوق التي أرادها والده طريقا له إلى أكبر المناصب السياسية التي كانت مقصورة، في ذلك الزمان، على أبناء الكلية التي كانت الرحم الذي يولد منه قادة الأحزاب والزعماء السياسيون والوزراء ومن في حكمهم. ولكن كامل زهيري الشاب أدركته عدوى الأدب من قراءة طه حسين وتلميذه محمد مندور اللذين جذباه إلى دنيا الأدب التي مالبثت أن قادته إلى تجمعات السيرياليين في مصر، فعرف رموزها، جورج حنين والتلمساني وأنور كامل وغيرهم من «جماعة الخبز والحرية» و«التطور» فأسهم فيها، وانطوى على شعلة تمردها المقدسة، واكتسب منها محبة الرسم والفنون التشكيلية، والاندفاع صوب الموجات الأدبية والفنية المتمردة على كل قديم جامد. ولذلك، ما إن تخرّج من كلية الحقوق في مايو 1947، وافتتح لنفسه مكتباً للمحاماة، فإنه سرعان ما تركه،ليعمل في إذاعة الهند، ويعيش عجائب هذا البلد الذي ظل ينطوي على حبه لأكثر من عام، واتصلت حباله بحبال «الأهرام» التي أصبح مراسلاً لها في الهند، تلك التي جذبته إلى أسرارها وتاريخها ودياناتها وتنوع فنونها، فعرف طاغور وإقبال قبل أن يعرفهما الكثيرون، وذلك إلى جانب العلاقة التي ربطته بالصحافة، وكانت بدايتها الأهرام التي استطاع أن ينشر فيها «خبطات» صحفية، مكنه منها أصدقاؤه المسئولون الكبار في الهند. ولكنه لم يلبث أن اكتفى من حياته في الهند، فقرر الرحلة إلى عاصمة النور التي كان يحلم بالحياة فيها، خصوصا «الحي اللاتيني» الذي يقع السوربون في القلب منه، فحمل حقيبته وأحلامه وذهب إلى «فترينة الدنيا» التي أغواه بها توفيق الحكيم، وقبله هيكل وطه حسين، ماضياً في الطريق نفسه الذي مضى فيه عبدالرحمن الشرقاوي، لكن مع اختلاف التوجه والمطامح.
ووصل كامل زهيري إلى باريس، وأصبح «الحي اللاتيني» فضاءه الأثير الذي لا يتركه إلا ليعود إليه، ولا يهجره إلى غيره، كالعاشق الذي قرر عدم مفارقة معشوقه. وهو يصف حياته في الحي اللاتيني، في أواخر الأربعينيات في أكثر من كتاب له، وأهمها كتابه «الغاضبون» الذي أنقل عنه قوله: «فرنسا عندي هي باريس، وباريس هي الحي اللاتيني».
ذكريات في باريس