[size=18][b][size=18][b]ظل التاريخ مثار جدل مستديم، وظلت الصراعات العقائدية والفكرية قائمة على تأويله، أو على توجيه نصوصه الوجهة التي يبتغيها الباحث، أو الحاكم، أو غيرهما. ولأن التاريخ مثله مثل معظم فنون السرد العربي ينتمي (إلى السرود الشفاهية، فقد نشأ في ظل سيادة مطلقة للمشافهة، ولم يقم التدوين، الذي عرف في وقت لاحق لظهور المرويات السردية إلا بتثبيت آخر صورة بلغها المروي، الأمر الذي يؤكد قضية تاريخية مهمة، وهي أن المدونات السردية، لا تمثل سوى المرحلة الأخيرة التي كان عليها المروي قبل تدوينه)(1).
مما يشير إلى المرحلة الأخيرة التي تضمنت الأبعاد التالية:
1- مرت عليها وجهات نظر متعددة، كان أخرها الراوي الأخير.
2- أنها اهتمت بالمتلقي/ القارئ وأفكاره وحاجاته وظلت تتحرك وفق تصوراته.
3- ثمة فواصلٌ عديدة تعمل على تعدد وجهات النظر وتفاوتها منها زمنية واجتماعية واقتصادية ودينية (عقائدية) تقف بوجه الراوي وتعيقه عن إبلاغ رسالته الصادقة، أو الحدث التاريخي إلى المستقبل/ القارئ.
4- ظهور متغيرات وظروف ومؤثرات عديدة لها صلة بالجوانب الأخلاقية والنفسية، والسلطوية، مع ظهور فئة من الرواة أصبحوا رواةً رسميين، ينهضون بأحداث الحاكم ومتطلبات حكمه.
يقف على الجانب الآخر منهم رواة شعبيون معنيون بتوثيق/ تدوين أحداث العامة، الأحداث التي لها علاقة بالسواد الأعظم من المجتمع، وهم في الغالب مغيبون عن الساحة بشكل أو بآخر.
تأويل التاريخ
التأويل منهج لاستبطان دواخل الأفكار عبر الحفر العميق فيها للتوصل إلى نتائج غير معلنة، فهو بالتالي نوع من الانحراف المقصود في تحديد مسارات البحث ونتائجه، من هنا يبدو لبعضهم مشبوهاً ومتهماً، لأنه يصبو إلى فهم بلا امتياز، لأن التحليل التأويلي يعد بمثابة إعادة بناء غير واعية لا يخل في نطاق اللاوعي المرضي (2). لذا يبدو الباحث، هنا، شخصية شكاكة تعاني من أزمة الثقة بالآخرين (بالناقل والراوي والمؤرخ)، فهو متهم لأنه يهدف إلى نقل حركة الزمن من الماضي إلى الحاضر، وربما يسبغ عليه رؤيته المعاصرة، وفي هذا النوع من القسر، أو تحميل الزمن ما لا يحتمله، مما يجعل موقف التأويل من التاريخ خاضعاً لرؤى ومفاهيم جديدة، حينما يقف المؤوِّل في منطقة (الما بين) ويحاول أن يقول أن الذات ليست ذاتاً متفوقة، من خلال الكشف عما هو متخفٍ عبر استقراء فضاءات الاختلاف (3) حينما يحاول استبطان وجهات النظر المتعددة لينشئ عليها خطابه الخاص به. وهنا يبدو المؤوِّل شخصاً منحازاً يحاول التوصل إلى المسكوت عنه في النص التاريخي، أو ما يعرف بالنص الغائب، وغير المكتوب، والذي يفترض حضوره وهو يحيل إلى العلاقة المقموعة، عن طريق قراءة أنظمة الخطاب، وقوانين تشكيلهِ لمستوياته المتعددة (4). وهنا تبدو المساحة على رغم لا محدوديتها في التحليل ضيقة، وربما تدخل فضاءاتها الواسعة الباحث في متاهات لا تؤدي إلى النتائج المفترضة التي يطمح بالتوصل إليها.
تطبيقات..
لا أريد أن يكون افتراضي لتأويل التاريخ من البداية موجهاً وخاضعاً لشيء من القصدية، لأنها تفسد الفكرة التي يتوخاها الباحث في نطاق السردية التاريخية، (التاريخ العربي الإسلامي حصراً) بوصفه خطاباً يتضمن إشكالاته الكامنة فيه، ويخضع لظروف ومؤثرات كثيرة، ولكنه في الوقت نفسه يعبر عن رؤية المؤرخ المتجرد عن الأفكار المسبقة، لأن الطابع التعاطفي أو التعبيري عن الذات المنحازة للنص يظل موضع تحريات عديدة وهي تحاكم أحداث العصر، والمؤرخ بوصفه ناقلاً وراوياً، سواء أكان موجهاً أو غير موجه؟ وفي نطاق التأويل يمكن أن يأخذ الباحث جانباً تصويرياً غير واضح، وربما معتماً، لا يستطيع فتح مغاليقه إلا بعد أن ترسخ ذهنه ونضجت أدواته، وترفعت نفسه عن التحزب والانحياز، ولأن التاريخ يتصل بالأفراد والمجتمع، وإن الذي يدونه هم أفراد ولا يدونه المجتمع بأسره، فإنه يظل خاضعاً لوجهة نظر الفرد، وهي تمتلك زاوية واحدة، من هنا سأختار بعض النصوص التاريخية على سبيل التطبيق، دون ضوابط مسبقة، يقول ابن خلكان (ت681هـ) في مقدمة كتابه (وفيات الأعيان) مشيراً إلى طبيعة ومحتوى هذا الكتاب هذا مختصر في التاريخ، دعاني إلى جمعه أني كنت مولعاً بالإطلاع على أخبار المتقدمين من أولي النباهة وتواريخ وفياتهم ومواليدهم، من جمع منهم كل عصر، فوقع لي منه شيء حملني على الاستزادة وكثرة التتبع، فعمدت إلى مطالعة الكتب الموسومة بهذا الفن، وأخذت من أفواه الأئمة المُتقنين له ما لم أجده في كتاب)(5). يشير ابن خلكان إلى ولعه، وجمعه من كتب الآخرين والاستزادة من أفواه الناس، والولع نوعٌ من الإغراء، والإغراء نوعٌ من الانحياز والتعاطف، وهو مرتبط به ذاتياً، أي أنه تاريخ يرتبط بذات ابن خلكان شخصياً من خلال لفظه (دعاني)، مما يعني أنه ينطلق من رؤية مضمرة كونتها سنوات البحث والمتابعة، لا تخضع للعفوية والسذاجة، والأحكام الجاهزة.
يقول اليعقوبي (ت292هـ) في مقدمة الجزء الثاني من تاريخه (6):
أنه لما انقضى كتابنا الأول، الذي اختصرنا فيه ابتداء كون الدنيا وأخبار الأوائل من الأمم المتقدمة، والممالك المتفرقة، والأسباب المتشعبة ألَّفنا كتابنا هذا على ما رواه الأشياخ المتقدمون من العلماء والرواة، وأصحاب السير والأخبار والتأريخيات، ولم نذهب إلى التفرد بكتاب نصفه ونتكلف منه ما قد سبقنا إليه غيرنا؛ لكننا قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات لأننا قد وجدناهم اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم وفي السنين والأعمار وزاد بعضهم ونقص بعض فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كل امرئ منهم لأن الواحد لا يحيط بكل العلم.[/b][/size]
مما يشير إلى المرحلة الأخيرة التي تضمنت الأبعاد التالية:
1- مرت عليها وجهات نظر متعددة، كان أخرها الراوي الأخير.
2- أنها اهتمت بالمتلقي/ القارئ وأفكاره وحاجاته وظلت تتحرك وفق تصوراته.
3- ثمة فواصلٌ عديدة تعمل على تعدد وجهات النظر وتفاوتها منها زمنية واجتماعية واقتصادية ودينية (عقائدية) تقف بوجه الراوي وتعيقه عن إبلاغ رسالته الصادقة، أو الحدث التاريخي إلى المستقبل/ القارئ.
4- ظهور متغيرات وظروف ومؤثرات عديدة لها صلة بالجوانب الأخلاقية والنفسية، والسلطوية، مع ظهور فئة من الرواة أصبحوا رواةً رسميين، ينهضون بأحداث الحاكم ومتطلبات حكمه.
يقف على الجانب الآخر منهم رواة شعبيون معنيون بتوثيق/ تدوين أحداث العامة، الأحداث التي لها علاقة بالسواد الأعظم من المجتمع، وهم في الغالب مغيبون عن الساحة بشكل أو بآخر.
تأويل التاريخ
التأويل منهج لاستبطان دواخل الأفكار عبر الحفر العميق فيها للتوصل إلى نتائج غير معلنة، فهو بالتالي نوع من الانحراف المقصود في تحديد مسارات البحث ونتائجه، من هنا يبدو لبعضهم مشبوهاً ومتهماً، لأنه يصبو إلى فهم بلا امتياز، لأن التحليل التأويلي يعد بمثابة إعادة بناء غير واعية لا يخل في نطاق اللاوعي المرضي (2). لذا يبدو الباحث، هنا، شخصية شكاكة تعاني من أزمة الثقة بالآخرين (بالناقل والراوي والمؤرخ)، فهو متهم لأنه يهدف إلى نقل حركة الزمن من الماضي إلى الحاضر، وربما يسبغ عليه رؤيته المعاصرة، وفي هذا النوع من القسر، أو تحميل الزمن ما لا يحتمله، مما يجعل موقف التأويل من التاريخ خاضعاً لرؤى ومفاهيم جديدة، حينما يقف المؤوِّل في منطقة (الما بين) ويحاول أن يقول أن الذات ليست ذاتاً متفوقة، من خلال الكشف عما هو متخفٍ عبر استقراء فضاءات الاختلاف (3) حينما يحاول استبطان وجهات النظر المتعددة لينشئ عليها خطابه الخاص به. وهنا يبدو المؤوِّل شخصاً منحازاً يحاول التوصل إلى المسكوت عنه في النص التاريخي، أو ما يعرف بالنص الغائب، وغير المكتوب، والذي يفترض حضوره وهو يحيل إلى العلاقة المقموعة، عن طريق قراءة أنظمة الخطاب، وقوانين تشكيلهِ لمستوياته المتعددة (4). وهنا تبدو المساحة على رغم لا محدوديتها في التحليل ضيقة، وربما تدخل فضاءاتها الواسعة الباحث في متاهات لا تؤدي إلى النتائج المفترضة التي يطمح بالتوصل إليها.
تطبيقات..
لا أريد أن يكون افتراضي لتأويل التاريخ من البداية موجهاً وخاضعاً لشيء من القصدية، لأنها تفسد الفكرة التي يتوخاها الباحث في نطاق السردية التاريخية، (التاريخ العربي الإسلامي حصراً) بوصفه خطاباً يتضمن إشكالاته الكامنة فيه، ويخضع لظروف ومؤثرات كثيرة، ولكنه في الوقت نفسه يعبر عن رؤية المؤرخ المتجرد عن الأفكار المسبقة، لأن الطابع التعاطفي أو التعبيري عن الذات المنحازة للنص يظل موضع تحريات عديدة وهي تحاكم أحداث العصر، والمؤرخ بوصفه ناقلاً وراوياً، سواء أكان موجهاً أو غير موجه؟ وفي نطاق التأويل يمكن أن يأخذ الباحث جانباً تصويرياً غير واضح، وربما معتماً، لا يستطيع فتح مغاليقه إلا بعد أن ترسخ ذهنه ونضجت أدواته، وترفعت نفسه عن التحزب والانحياز، ولأن التاريخ يتصل بالأفراد والمجتمع، وإن الذي يدونه هم أفراد ولا يدونه المجتمع بأسره، فإنه يظل خاضعاً لوجهة نظر الفرد، وهي تمتلك زاوية واحدة، من هنا سأختار بعض النصوص التاريخية على سبيل التطبيق، دون ضوابط مسبقة، يقول ابن خلكان (ت681هـ) في مقدمة كتابه (وفيات الأعيان) مشيراً إلى طبيعة ومحتوى هذا الكتاب هذا مختصر في التاريخ، دعاني إلى جمعه أني كنت مولعاً بالإطلاع على أخبار المتقدمين من أولي النباهة وتواريخ وفياتهم ومواليدهم، من جمع منهم كل عصر، فوقع لي منه شيء حملني على الاستزادة وكثرة التتبع، فعمدت إلى مطالعة الكتب الموسومة بهذا الفن، وأخذت من أفواه الأئمة المُتقنين له ما لم أجده في كتاب)(5). يشير ابن خلكان إلى ولعه، وجمعه من كتب الآخرين والاستزادة من أفواه الناس، والولع نوعٌ من الإغراء، والإغراء نوعٌ من الانحياز والتعاطف، وهو مرتبط به ذاتياً، أي أنه تاريخ يرتبط بذات ابن خلكان شخصياً من خلال لفظه (دعاني)، مما يعني أنه ينطلق من رؤية مضمرة كونتها سنوات البحث والمتابعة، لا تخضع للعفوية والسذاجة، والأحكام الجاهزة.
يقول اليعقوبي (ت292هـ) في مقدمة الجزء الثاني من تاريخه (6):
أنه لما انقضى كتابنا الأول، الذي اختصرنا فيه ابتداء كون الدنيا وأخبار الأوائل من الأمم المتقدمة، والممالك المتفرقة، والأسباب المتشعبة ألَّفنا كتابنا هذا على ما رواه الأشياخ المتقدمون من العلماء والرواة، وأصحاب السير والأخبار والتأريخيات، ولم نذهب إلى التفرد بكتاب نصفه ونتكلف منه ما قد سبقنا إليه غيرنا؛ لكننا قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات لأننا قد وجدناهم اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم وفي السنين والأعمار وزاد بعضهم ونقص بعض فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كل امرئ منهم لأن الواحد لا يحيط بكل العلم.[/b][/size]