[b][b]البنية الدلالية في المتن الشعري لممدوح عدوان – د.امحمد برغوث
الكاتب/ أنفاس
ترتبط مشكلة الدلالة في النص الشعري بقضية الكشف عن طبيعة اللغة الشعرية التي تتجاوز الاستعمال النفعي للغة العادية، وتختلف عن قواعد توليد المعنى التي تخضع لها الأجناس الأدبية الأخرى؛ذلك أن لغة الشعر لا تلجأ إلى الخلط المباشر بين الإشارة والدلالة، بل تسعى لخلق توتر في علاقة الإشارة بما تعنيه من دلالات لغوية مألوفة.
إلا أنه يجب التمييز ـ مبدئيا وتبعا لما تفرضه اللسانيات المعاصرة ـ بين نوعين من قضايا الدلالة، وهما:
أ ـ الدلالة في صورتها الشكلية (كيف يدل النص؟ = الحامل)
ب ـ الدلالة في صورتها الجوهرية (عن أي شيء يدل؟ = المحمول)
لقد طرحت مجموعة من الأسئلة المتعلقة بطبيعة "الشيفرة" التي تنطوي عليها اللغة الشعرية وبكيفية تخلق هذه "الشيفرة"، وبالطريقة التي تؤسس بها منطقها الجديد المفارق لمنطق اللغة العادية.
وقد طرح كل من: "يوري لوتمان"(1) و"مايكل ريفاتير"(2) ذلك.
ويرى "ريفاتير" أن: "القصيدة تقوم بفاعليتها الشعرية بطريقة استرجاعية: (Bakwardly) تتخلق عبرها قواعد "الشيفرة" الشعرية، ويتولد الأساس الذي ينهض عليه المعنى فيها".(3) وتنهض هذه الطريقة الاسترجاعية على أساس التعامل مع العلاقات الكائنة على المحور السياقي أو الأفقي، ومن خلال عملية التراكم والاستبعاد يتم التعرف على خرائط المعنى في النص الشعري عبر علاقات التجاوز والالتماس بين مفردات المحور الأفقي، وبالتالي فإن الوظيفة الدلالية في الشعر تتبلور على هذا المحور حيث ينتقل المعنى من إشارة إلى أخرى. ومع أن هذا المحور الأفقي يتجسد عن طريق علاقات التتابع، فإنه منظم على شكل طبقات متراكبة من الأنساق الأربعة الرئيسية، وهي:
1 ـ النسق اللغوي
2 ـ النسق الأسلوبي
3 ـ النسق المعجمي
4 ـ النسق المضموني.
ومن خلال التعامل مع هذه الأنساق، يمكننا التعرف على آليات توليد المعنى في النص الشعري.
ويرى "لوسيان غولدمان" أن النصوص الأدبية هي أعمال ممتازة للكلام وليس بنى لغوية دلالية، ويقول:
"يبدو لي أن من بين الفروقات العديدة هنا فرقا أسياسيا بين اللغة والكلام، مفاده أن اللغة ذات طابع غير معبر (غير دال)، بينما الكلام ذو طابع معبر. أجل لا تستطيع أية لغة بحد ذاتها أن تكون لها دلالة شاملة، لأن سبب وجودها ووظيفتها هو السماح بالتعبير عن كل المعاني. فاللغة لا تستطيع أن تكون متشائمة أو متفائلة، لأنه يجب أن نتمكن من التعبير عن الفرح والغضب واليأس. وبالعكس فإن كل كلام تطبع بطابع المجتمع أصبح بالضرورة معبرا في مجمله عن الدلالة على شيء، مع أنه غالبا ما يحصل أن الخطاب هو خليط ويحمل عدة معان، وأريد أن أقول أن علم اللغة هو دراسة لأنظمة الوسائل التي تتيح لنا التعبير عن المعاني، وليس دراسة هذه المعاني ذاتها (4).
إن غولدمان يؤكد هنا على ضرورة البعد الاجتماعي للغة، لبيان دلالتها، فوصف اللغة لذاته، ليس مهما جدا في رأيه، ومن هذا المنطلق، فإن النص الأدبي يستمد معناه وبنيته الدلالية من رؤية العالم التي يعبر عنها.
وهكذا، فإن منطلق البنيوية التوليدية ـ لدى غولدمان ـ يعيد للذات الإبداعية للكاتب اعتبارها بعد أن اغتالها العلمانية النصية للبنيوية عندما احتكمت للغة في ذاتها مرجعا، وجردتها من اجتماعية التواصل المتمثل في الكلام والخطاب، حيث اغتالت الذات باسم إعلاء شأن محسوسية الموضوع، والدلالة باسم المدلول المحدد، والخيال باسم واقعية التحقق اللغوي.
ومن هنا، فإن اقتراحات ـ غولدمان ـ التي تحرر النص كبنية صغرى من انعزاليته اللغوية لتدمجه في بنية كبرى هي (الواقع)؛ ترتقي باللغة من مستواها القاموسي الصامت إلى مستواها المعاش المحكي الحكي، ومن ثم يكتسب الكلام صفته الخطابية والتواصلية من خلال اندماج بنية النص ببنية التاريخ وتحققه كتجسيد لرؤية تفاعلية، تغدو فيها رؤية الكاتب للعالم ناظما محددا للأشكال الدلالية المتمخضة عن علاقة التفاعل القائمة بين الفنان وعصره.
وتقدم لنا قصيدة ممدوح عدوان في سماتها العامة، خرائط من المعاني يغذيها وعي الشاعر بمعطيات داخلية وخارجية سأحاول إبرازها في :ما يلي
I- الخلفية القومية:
لقد ارتبط صوت ممدوح عدوان الشعري منذ أول ديوان له، بقضايا الأمة العربية، بهزائمها وانتكاساتها، بآلامها ومواجعها، وقد كان لأثر هزيمة حزيران 1967، السبب المباشر في ظهور أول مجموعة شعرية له وهي: "الظل الأخضر" ثم توالت بعدها دواوينه الشعرية، إلا أنها ارتبطت بسلسلة من القضايا القومية والوطنية والاجتماعية.
إن كينونة النص الشعري عند عدوان ـ هنا ـ تتحقق على وتر مشدود بين:
الإطار الذي ينطوي على الحقائق والروافد السابقة للنص.
السياق الذي ينطوي على الظروف المرافقة له.
ويمكن أن أضع لتوضيح ذلك الترسيمة التالية:
الاطار -------- النص -------- السياق
إنه وتر مشدود بين طرفين، ينطوي على درجة من التوتر، تكشف عنها علاقات الأسبقية والمزامنة التي تحكمها جدلية: الماضي، الحاضر من وجهة، والمواصفات الفنية والرغبة في التحرر منها من جهة أخرى.
من هذا المنطلق إذن، يلقي ممدوح عدوان بصوته الشعري داخل انهيارات الزمن العربي ليكتب مرثية له، يقع فيها التركيز على التقاط صور الفجائع والانهيارات بكل تفاصيلها.
1 ـ بنية الرثاء:
رثاء الزمن العربي وكشف حالة الهزيمة:
وتشكل هذه البنية مفتاح فهم التجربة الشعرية لخلفية ممدوح عدوان القومية، وتتجلى في الإحساس الفاجع بالمرحلة التاريخية التي انبثق فيها شعره: (من 1967 إلى الآن)، وهو إحساس يصور سلسلة هزائم الأمة العربية منذ بداية الستينيات، وتحديدا انطلاقا من: انهيار الجمهورية العربية المتحدة (انفصال سورية عن مصر)، مرورا بتعثر المشروعات الثورية، وصولا إلى نكبة فلسطين، ثم إلى الوضع العربي في العقدين السابع والثامن من هذا القرن.
ومن هنا تبدو طبيعة هذه البنية الرثائية التي يشتمل عليها شعره، مرتبطة عنده بتجارب أمته، وبواقعها (السياسي والوطني والاجتماعي) طوال العقود الأربعة الأخيرة من الزمن. ولذا وجب تحديد طبيعة هذه البنية، واستخلاص رؤاها ومرتكزاتها الفنية، وذلك بالعودة إلى النصوص الشعرية التي تفصح عن هذه البنية.
يقول ممدوح عدوان في قصيدته: "روي عن الخنساء": (5)
تبح حناجر النداب من ندم بعاشوراء
يهيم النهر كالمجنون، والتمساح يسكب فيه أدمعه
ويملأ جوفه المسعور بالحمأ
ولكن القتيل بكربلاء يموت وسط النهر من ظمأ
وآلاف الحناجر كل يوم تتخم الدنيا
تؤذن للصلاح وللفلاح.. ولا يمر الصوت في الصحراء
ينبه غافلا يقضي.. ولا يدري
بأن الفقر، ان العذر في الملأ.
إن الرثاء هنا مستلهم من فداحة المصاب بضياع فلسطين من أيدي العرب؛ ولذلك يبلغ الشاعر في هذا المقطع الشعري درجة عالية من التوتر، يحاول جاهدا إخفاءه داخل تداعيات تاريخية، وذلك بتوظيف حدث عاشورا المرتبط بمقتل الحسين.
ويكثر صراخ الشاعر وبكاؤه في مقطع موال حينما يقول:
إليك أهيم في الصحراء، أركض خلف ظلي، خلف حد الأفق اندبه فأنكفئ
إليك حملت ملء متاعبي جمرا، أخاف عليه ينطفئ
ركضت.. ركضت حتى تهت عن ساقي
كأني كنت أبحث عن إله ضاع في نهر من العدم
صرخت.. صرخت.. حتى ألقيت في الرمل حنجرتي
حتى امتص صوتي في فمي الصدأ (6).
وحينما يهدأ من هذا الصراخ القاتل، يحاول أن يعزي نفسه، لكنه سرعان ما يحمل القيادة العربية مسؤولية الهزيمة لأنها لم تضطلع بمسؤوليتها القومية كما كان عليها ان تفعل:
ويهدأ كل من حولي.. فاهدأ مثلما هدأوا
أعزي النفس "قد تنبو سيوف التأثر، تكبو في الوغى الفرسان"
ولكني أراهم دونما خيل.. ولا سيفا لديهم
قد تربع في عروشهم.. وفي حرماتهم خصيان.(7)
يستوحي عدوان في هذا المقطع المثل العربي القديم: "السيف ينبو والفرس يكبو" للدلالة على الهوة الفاصلة بين الجماهير العربية ـ المتحمسة لخوض الحرب واسترجاع الكرامة ـ والقيادة العربية المهزومة المتذرعة بتبريرات واهية لتفسير هزيمتها.
ومن ثم تبدو وطأة هذه الهزيمة قاسية على الشاعر، إنها تذكره بالموت والظلام:
يذكرني غروب الشمس بالقتلى
بمن من ليلنا انطفأوا
وتجثم فوق أعيننا وحوش الليل
تأبى الشمس أن تأتي مع الريح
....
ويجهش حولنا فوج التماسيح
يدوم بكاؤهم جيلا.
...
إلى قوله:
يذكرني غروب الشمس كيف تضمخوا بالضوء..وانطفأوا
وكيف مضوا
وما طلعت علينا الشمس بعدهم
وكيف تهالكوا تعبا..
وكيف الأرض غاضت..
عندما اتكأوا.(
يستوحي الشاعر في هذه المقاطع الشعرية مرثية الخنساء الشهيرة لأخيها صخر كما يوظف معاني: الإنطفاء والظلام والبكاء للدلالة على وطأة الهزيمة التي منيت بها أمته بعد أحداث 1967.
وتكاد تنسحب هذه البنية الرثائية على معظم ما كتب ممدوح عدوان من شعر وتبدو أحيانا وكأنها الخلفية الأساسية في كل ما كتب من قصائد شعرية منذ 1967 إلى الآن.
إن الموت منتشر في كل الأنحاء، فوق أرصفة المدن العربية المهزومة؛ إنه موجود حتى في الرغيف الذي يؤكل، في اللباس، وهو يظهر على الوجوه كذلك.
يقول في قصيدة: "سيأتيكم زمان": (9)
ها هو الموت يأتي.. خطاه على الأرصفة
وجهه سيفاجئ في العطفات
وقد يشرئب في الأرغفة
ها هو الموت يأتي..
تنفسه عند بابي،
وفوق وجوه النيام.
ها هو الموت يأتي.. انهضوا أيها الميتون
جاء موت جديد
نابع بين حبل الوريد وبين الجبين
هادئ، مختف بين دفء الكرى والنعاس
قادم مطرا فوق هذي البيوت
ها هو الموت يأتي، اطمئنوا، اكشفوا موتكم
فالذي لا يموت قتالا،
صراخا يموت، وغدرا يموت، وغيظا يموت
يؤكل الموت، يشرب، يلبس، تغسل فيه الوجوه
إلى حد قوله:
كل نبع يحاصر،
لم يبق للشرب إلا الدماء [/b]
الكاتب/ أنفاس
ترتبط مشكلة الدلالة في النص الشعري بقضية الكشف عن طبيعة اللغة الشعرية التي تتجاوز الاستعمال النفعي للغة العادية، وتختلف عن قواعد توليد المعنى التي تخضع لها الأجناس الأدبية الأخرى؛ذلك أن لغة الشعر لا تلجأ إلى الخلط المباشر بين الإشارة والدلالة، بل تسعى لخلق توتر في علاقة الإشارة بما تعنيه من دلالات لغوية مألوفة.
إلا أنه يجب التمييز ـ مبدئيا وتبعا لما تفرضه اللسانيات المعاصرة ـ بين نوعين من قضايا الدلالة، وهما:
أ ـ الدلالة في صورتها الشكلية (كيف يدل النص؟ = الحامل)
ب ـ الدلالة في صورتها الجوهرية (عن أي شيء يدل؟ = المحمول)
لقد طرحت مجموعة من الأسئلة المتعلقة بطبيعة "الشيفرة" التي تنطوي عليها اللغة الشعرية وبكيفية تخلق هذه "الشيفرة"، وبالطريقة التي تؤسس بها منطقها الجديد المفارق لمنطق اللغة العادية.
وقد طرح كل من: "يوري لوتمان"(1) و"مايكل ريفاتير"(2) ذلك.
ويرى "ريفاتير" أن: "القصيدة تقوم بفاعليتها الشعرية بطريقة استرجاعية: (Bakwardly) تتخلق عبرها قواعد "الشيفرة" الشعرية، ويتولد الأساس الذي ينهض عليه المعنى فيها".(3) وتنهض هذه الطريقة الاسترجاعية على أساس التعامل مع العلاقات الكائنة على المحور السياقي أو الأفقي، ومن خلال عملية التراكم والاستبعاد يتم التعرف على خرائط المعنى في النص الشعري عبر علاقات التجاوز والالتماس بين مفردات المحور الأفقي، وبالتالي فإن الوظيفة الدلالية في الشعر تتبلور على هذا المحور حيث ينتقل المعنى من إشارة إلى أخرى. ومع أن هذا المحور الأفقي يتجسد عن طريق علاقات التتابع، فإنه منظم على شكل طبقات متراكبة من الأنساق الأربعة الرئيسية، وهي:
1 ـ النسق اللغوي
2 ـ النسق الأسلوبي
3 ـ النسق المعجمي
4 ـ النسق المضموني.
ومن خلال التعامل مع هذه الأنساق، يمكننا التعرف على آليات توليد المعنى في النص الشعري.
ويرى "لوسيان غولدمان" أن النصوص الأدبية هي أعمال ممتازة للكلام وليس بنى لغوية دلالية، ويقول:
"يبدو لي أن من بين الفروقات العديدة هنا فرقا أسياسيا بين اللغة والكلام، مفاده أن اللغة ذات طابع غير معبر (غير دال)، بينما الكلام ذو طابع معبر. أجل لا تستطيع أية لغة بحد ذاتها أن تكون لها دلالة شاملة، لأن سبب وجودها ووظيفتها هو السماح بالتعبير عن كل المعاني. فاللغة لا تستطيع أن تكون متشائمة أو متفائلة، لأنه يجب أن نتمكن من التعبير عن الفرح والغضب واليأس. وبالعكس فإن كل كلام تطبع بطابع المجتمع أصبح بالضرورة معبرا في مجمله عن الدلالة على شيء، مع أنه غالبا ما يحصل أن الخطاب هو خليط ويحمل عدة معان، وأريد أن أقول أن علم اللغة هو دراسة لأنظمة الوسائل التي تتيح لنا التعبير عن المعاني، وليس دراسة هذه المعاني ذاتها (4).
إن غولدمان يؤكد هنا على ضرورة البعد الاجتماعي للغة، لبيان دلالتها، فوصف اللغة لذاته، ليس مهما جدا في رأيه، ومن هذا المنطلق، فإن النص الأدبي يستمد معناه وبنيته الدلالية من رؤية العالم التي يعبر عنها.
وهكذا، فإن منطلق البنيوية التوليدية ـ لدى غولدمان ـ يعيد للذات الإبداعية للكاتب اعتبارها بعد أن اغتالها العلمانية النصية للبنيوية عندما احتكمت للغة في ذاتها مرجعا، وجردتها من اجتماعية التواصل المتمثل في الكلام والخطاب، حيث اغتالت الذات باسم إعلاء شأن محسوسية الموضوع، والدلالة باسم المدلول المحدد، والخيال باسم واقعية التحقق اللغوي.
ومن هنا، فإن اقتراحات ـ غولدمان ـ التي تحرر النص كبنية صغرى من انعزاليته اللغوية لتدمجه في بنية كبرى هي (الواقع)؛ ترتقي باللغة من مستواها القاموسي الصامت إلى مستواها المعاش المحكي الحكي، ومن ثم يكتسب الكلام صفته الخطابية والتواصلية من خلال اندماج بنية النص ببنية التاريخ وتحققه كتجسيد لرؤية تفاعلية، تغدو فيها رؤية الكاتب للعالم ناظما محددا للأشكال الدلالية المتمخضة عن علاقة التفاعل القائمة بين الفنان وعصره.
وتقدم لنا قصيدة ممدوح عدوان في سماتها العامة، خرائط من المعاني يغذيها وعي الشاعر بمعطيات داخلية وخارجية سأحاول إبرازها في :ما يلي
I- الخلفية القومية:
لقد ارتبط صوت ممدوح عدوان الشعري منذ أول ديوان له، بقضايا الأمة العربية، بهزائمها وانتكاساتها، بآلامها ومواجعها، وقد كان لأثر هزيمة حزيران 1967، السبب المباشر في ظهور أول مجموعة شعرية له وهي: "الظل الأخضر" ثم توالت بعدها دواوينه الشعرية، إلا أنها ارتبطت بسلسلة من القضايا القومية والوطنية والاجتماعية.
إن كينونة النص الشعري عند عدوان ـ هنا ـ تتحقق على وتر مشدود بين:
الإطار الذي ينطوي على الحقائق والروافد السابقة للنص.
السياق الذي ينطوي على الظروف المرافقة له.
ويمكن أن أضع لتوضيح ذلك الترسيمة التالية:
الاطار -------- النص -------- السياق
إنه وتر مشدود بين طرفين، ينطوي على درجة من التوتر، تكشف عنها علاقات الأسبقية والمزامنة التي تحكمها جدلية: الماضي، الحاضر من وجهة، والمواصفات الفنية والرغبة في التحرر منها من جهة أخرى.
من هذا المنطلق إذن، يلقي ممدوح عدوان بصوته الشعري داخل انهيارات الزمن العربي ليكتب مرثية له، يقع فيها التركيز على التقاط صور الفجائع والانهيارات بكل تفاصيلها.
1 ـ بنية الرثاء:
رثاء الزمن العربي وكشف حالة الهزيمة:
وتشكل هذه البنية مفتاح فهم التجربة الشعرية لخلفية ممدوح عدوان القومية، وتتجلى في الإحساس الفاجع بالمرحلة التاريخية التي انبثق فيها شعره: (من 1967 إلى الآن)، وهو إحساس يصور سلسلة هزائم الأمة العربية منذ بداية الستينيات، وتحديدا انطلاقا من: انهيار الجمهورية العربية المتحدة (انفصال سورية عن مصر)، مرورا بتعثر المشروعات الثورية، وصولا إلى نكبة فلسطين، ثم إلى الوضع العربي في العقدين السابع والثامن من هذا القرن.
ومن هنا تبدو طبيعة هذه البنية الرثائية التي يشتمل عليها شعره، مرتبطة عنده بتجارب أمته، وبواقعها (السياسي والوطني والاجتماعي) طوال العقود الأربعة الأخيرة من الزمن. ولذا وجب تحديد طبيعة هذه البنية، واستخلاص رؤاها ومرتكزاتها الفنية، وذلك بالعودة إلى النصوص الشعرية التي تفصح عن هذه البنية.
يقول ممدوح عدوان في قصيدته: "روي عن الخنساء": (5)
تبح حناجر النداب من ندم بعاشوراء
يهيم النهر كالمجنون، والتمساح يسكب فيه أدمعه
ويملأ جوفه المسعور بالحمأ
ولكن القتيل بكربلاء يموت وسط النهر من ظمأ
وآلاف الحناجر كل يوم تتخم الدنيا
تؤذن للصلاح وللفلاح.. ولا يمر الصوت في الصحراء
ينبه غافلا يقضي.. ولا يدري
بأن الفقر، ان العذر في الملأ.
إن الرثاء هنا مستلهم من فداحة المصاب بضياع فلسطين من أيدي العرب؛ ولذلك يبلغ الشاعر في هذا المقطع الشعري درجة عالية من التوتر، يحاول جاهدا إخفاءه داخل تداعيات تاريخية، وذلك بتوظيف حدث عاشورا المرتبط بمقتل الحسين.
ويكثر صراخ الشاعر وبكاؤه في مقطع موال حينما يقول:
إليك أهيم في الصحراء، أركض خلف ظلي، خلف حد الأفق اندبه فأنكفئ
إليك حملت ملء متاعبي جمرا، أخاف عليه ينطفئ
ركضت.. ركضت حتى تهت عن ساقي
كأني كنت أبحث عن إله ضاع في نهر من العدم
صرخت.. صرخت.. حتى ألقيت في الرمل حنجرتي
حتى امتص صوتي في فمي الصدأ (6).
وحينما يهدأ من هذا الصراخ القاتل، يحاول أن يعزي نفسه، لكنه سرعان ما يحمل القيادة العربية مسؤولية الهزيمة لأنها لم تضطلع بمسؤوليتها القومية كما كان عليها ان تفعل:
ويهدأ كل من حولي.. فاهدأ مثلما هدأوا
أعزي النفس "قد تنبو سيوف التأثر، تكبو في الوغى الفرسان"
ولكني أراهم دونما خيل.. ولا سيفا لديهم
قد تربع في عروشهم.. وفي حرماتهم خصيان.(7)
يستوحي عدوان في هذا المقطع المثل العربي القديم: "السيف ينبو والفرس يكبو" للدلالة على الهوة الفاصلة بين الجماهير العربية ـ المتحمسة لخوض الحرب واسترجاع الكرامة ـ والقيادة العربية المهزومة المتذرعة بتبريرات واهية لتفسير هزيمتها.
ومن ثم تبدو وطأة هذه الهزيمة قاسية على الشاعر، إنها تذكره بالموت والظلام:
يذكرني غروب الشمس بالقتلى
بمن من ليلنا انطفأوا
وتجثم فوق أعيننا وحوش الليل
تأبى الشمس أن تأتي مع الريح
....
ويجهش حولنا فوج التماسيح
يدوم بكاؤهم جيلا.
...
إلى قوله:
يذكرني غروب الشمس كيف تضمخوا بالضوء..وانطفأوا
وكيف مضوا
وما طلعت علينا الشمس بعدهم
وكيف تهالكوا تعبا..
وكيف الأرض غاضت..
عندما اتكأوا.(
يستوحي الشاعر في هذه المقاطع الشعرية مرثية الخنساء الشهيرة لأخيها صخر كما يوظف معاني: الإنطفاء والظلام والبكاء للدلالة على وطأة الهزيمة التي منيت بها أمته بعد أحداث 1967.
وتكاد تنسحب هذه البنية الرثائية على معظم ما كتب ممدوح عدوان من شعر وتبدو أحيانا وكأنها الخلفية الأساسية في كل ما كتب من قصائد شعرية منذ 1967 إلى الآن.
إن الموت منتشر في كل الأنحاء، فوق أرصفة المدن العربية المهزومة؛ إنه موجود حتى في الرغيف الذي يؤكل، في اللباس، وهو يظهر على الوجوه كذلك.
يقول في قصيدة: "سيأتيكم زمان": (9)
ها هو الموت يأتي.. خطاه على الأرصفة
وجهه سيفاجئ في العطفات
وقد يشرئب في الأرغفة
ها هو الموت يأتي..
تنفسه عند بابي،
وفوق وجوه النيام.
ها هو الموت يأتي.. انهضوا أيها الميتون
جاء موت جديد
نابع بين حبل الوريد وبين الجبين
هادئ، مختف بين دفء الكرى والنعاس
قادم مطرا فوق هذي البيوت
ها هو الموت يأتي، اطمئنوا، اكشفوا موتكم
فالذي لا يموت قتالا،
صراخا يموت، وغدرا يموت، وغيظا يموت
يؤكل الموت، يشرب، يلبس، تغسل فيه الوجوه
إلى حد قوله:
كل نبع يحاصر،
لم يبق للشرب إلا الدماء [/b]