[b][b]
'الشيء الوحيد الذي علينا أن نخافه هو الخوف ذاته'. استوقفتني هذه العبارة وأنا أقلب في صفحات هذا الملف المهم حول' تجديد الحياة الحزبية العربية'. فالتجديد مرادف للتغيير البناء وللإصلاح والتحديث, وهي باختصار قضايانا المعاصرة المطروحة بقوة علي مجتمعاتنا العربية في تلك المرحلة الدقيقة من تطور تجاربنا السياسية بكل جوانبها الاجتماعية والثقافية.
والتغيير-أي تغيير- يثير بحكم التعريف, الكثير من المخاوف والهواجس بل ويخلق هموما وتحديات يصعب تجاوزها دون أن نكسر حاجز الخوف بداخلنا. فالموروث القديم والتقاليد المعتادة والأساليب المجربة, بغض النظر عن مستوي صحتها أو فعاليتها أو حتي تكيفها مع الواقع المعاصر المتجدد, قد تخلق عبر الزمن حاجزا يقف ليس فقط دون اقتحام أي جديد, ولكن أحيانا دون حتي القدرة علي تجريب ما هو مختلف.
والواقع, وبنظرة موضوعية, فإن تلك الحالة ليست حالة خاصة, أو فريدة قاصرة علي المجتمعات النامية أو العربية أو التي مازالت تعيش مراحل انتقالية مختلفة في سبيل تطوير تجاربها السياسية والديمقراطية, وإنما هي حالة عامة تمتد لتشمل مختلف المجتمعات والتجارب حتي المتقدمة منها. فالعبارة المشار إليها إنما جاءت في إحدي الخطب الشهيرة للرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي, والتي روجت لمجموعة من الإصلاحات الجوهرية الداخلية تدشن بها مرحلة جديدة من العمل السياسي, استلزمت مراجعة الكثير من القواعد الثابتة المستقرة وكسر حاجز التقاليد القديمة حتي سميت حزمة الإصلاحات هذه' بالعهد الجديد''NewDeal'.
إذن فالتخوف من التغيير أو من إدخال عناصر جديدة إلي سياسات قديمة لا يتعلق بحجم الدول ولا بثراء أو فقر تجربتها السياسية. فالقاعدة تنطبق علي جميع الحالات أو الدول, سواء الكبيرة منها أو المتوسطة أو الصغيرة. فالخوف هنا هو أمر منطقي يمكن تفهمه واستيعابه, ولكن تظل القدرة والكيفية التي يتم بها التعامل معه هي التي تصنع الفرق وتميز بين التجارب المختلفة.
وربما تعد هذه المقدمة لازمة ونحن نفتح ملفا حيويا حول الأحزاب السياسية العربية ودورها المنشود في عمليات الإصلاح والتحديث والتطوير الديمقراطي والتي قد تستوجب تغيير أو مراجعة الكثير من المنطلقات الفكرية والسياسية قبل تلك التنظيمية والمؤسسية, مثلما قد تتجاوز مجرد إدماج أجيال جديدة من الناحية العمرية( أي تمثل فئة الشباب). فالفئة العمرية في حد ذاتها قد لا تعني شيئا إذا لم تحمل أفكارا واختيارات وبدائل جديدة أو مختلفة فالتجديد المقصود هنا يكتسب معني فكريا وسياسيا بالأساس إلي جانب محتواه الجيلي.
إن الحياة الحزبية السليمة هي عماد أي نظام سياسي حديث يقوم علي التعددية والانفتاح والتنافس السلمي الحر بين مختلف القوي السياسية والاجتماعية في المجتمع علي قاعدة من التكافؤ والمساواة الدستورية والقانونية. فمشاركة المجتمع في العملية السياسية لا تتأتي بدون أطر حزبية تنظمها, وتفتح لها قنوات شرعية للتعبير عن مطالب أو مصالح تلك القوي, بصورة تتجاوز المصالح الفئوية الضيقة أو الانتماءات الأولية التقليدية( مثل الانتماءات العصبية أو العائلية والقبلية والعشائرية وما شابهها). ومن هنا فإن الأحزاب مثلما تكون إطارا لتجميع المصالح والتعبير عنها أي إطارا لتوسيع قاعدة المشاركة السياسية, فإنها أيضا وبالضرورة تصبح وسيلة أساسية للتحديث في مجال العمل السياسي ببعديه الثقافي والمؤسسي. وبدون تلك الوظيفة الجوهرية, أي( الوظيفة التحديثية) تصبح الأحزاب إطارا فارغا من المضمون.
في هذا السياق, هناك الكثير مما يمكن أن يقال حول ظروف نشأة وتطور الأحزاب العربية وحول مجمل تجربتها عبر التاريخ الحديث. فالخبرة العربية عرفت التشكيلات الحزبية بشكل مبكر, وتنقلت من شكل إلي آخر وفق ظروف ومتطلبات تطور حياتها السياسية والاجتماعية والثقافية المعاصرة. وعبر كل تلك المراحل كانت تحمل معها إرثها التاريخي الطويل الذي ربما ساعدها علي التحديث والتطوير في لحظات معينة وكبلها بقيود ثقيلة في لحظات أخري. محطات عديدة توقفت عندها التجربة الحزبية العربية, فكانت إما تضيف إليها أو تنتقص منها, ولكنها في كل الأحوال استمرت في طريقها تبطئ حينا وتتعثر حينا, وتمضي وتنطلق حينا آخر.
لم تشهد الأحزاب العربية نفس ميلاد ونشأة الأحزاب الأوروبية والأمريكية التي عرفتها الخبرة الغربية منذ ما يقرب من القرنين من الزمان, والتي اقترنت بالثورة الصناعية وما صاحبها من تغيرات اجتماعية واقتصادية جذرية, فضلا عن تطور التكوين المؤسساتي الحديث للدولة, وهو ما أدي بالتالي إلي تزايد أسباب وعوامل المشاركة السياسية. بعبارة أخري إن الأحزاب السياسية في الخبرة الغربية كانت الوليد الطبيعي للمرحلة الصناعية وللحداثة. وهي شروط لم تتوافر كلها أو بعضها أو بنسب مختلفة في التجربة العربية. ففي بعض حالاتها كان الافتقاد إلي, أو ضعف البنية المؤسسية للدولة ورسوخ المكونات التقليدية للمجتمع, معوقا أساسيا لتطور حياتها الحزبية والسياسية عموما, حيث ظلت وحدات الانتماء الأولية مثل العائلة أو القبيلة أو العشيرة أو المذهب والطائفة, تسبق أي انتماء سياسي قومي عام, بل وتتجاوزه, هو ما جعل البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية غير مواتية للتطور الحزبي. إذ ظلت الأحزاب في الغالب تنظيما سياسيا حديثا في بيئة تقليدية. صحيح أنه كانت هناك فوارق واختلافات جوهرية من حالة إلي أخري, ولكن الحالات التي قطعت شوطا مهما من الت
حديث والتطور ربما شكلت الاستثناء, كالحالة المصرية علي سبيل المثال, والتي بدأت عملية التحديث والبناء السياسي المؤسسي فيها منذ أواخر القرن18 وأوائل القرن19, مع انطلاق مشروع نهضتها الكبير في ظل تجربة محمد علي الرائدة والتي وضعت الأساس الصلب لقيام الدولة القومية علي أسس حديثة في مصر.
وكما كانت معضلة التحديث بأبعادها ومستوياتها المختلفة تشكل إحدي الإشكاليات أمام تطور التجربة الحزبية العربية, فإن الخبرة السياسية والتاريخية ظلت بدورها تمثل معضلة أخري ألقت- ومازالت- بظلالها علي تلك التجربة بشكل عام.
فمعظم الأحزاب السياسية العربية تأسست في ظل الحقبة الاستعمارية بمعني أن الوعي السياسي الذي عبر عن نفسه من خلال الأطر الحزبية تشكل في ظرف تاريخي خاص, وهو النضال من أجل الاستقلال. فالوجود الاستعماري كان هو المحفز الرئيسي لنشأة غالبيتها باستثناء الحقبة الليبرالية الأولي, وهي الوريث الطبيعي لعصر النهضة المصرية والعربية الحديثة, والتي تنوعت فيها الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية للأحزاب, بحكم انتشار الثقافة الليبرالية والدستورية القانونية ومبادئ الحقوق والحريات المدنية, فإن مرحلة ما بعد الاستقلال والتي اتسمت بالثورية حملت مشاريع سياسية أخري كبري لم تتسق بالضرورة مع متطلبات التعددية السياسية الحزبية أو التطور الديمقراطي بشكل عام. وهي الحقبة التي تميزت بسيادة الأيديولوجية القومية العربية والتوجهات الاشتراكية, وشهدت ميلاد حركة القوميين العرب والأحزاب القومية والبعثية والناصرية, والتي هيمنت علي مجمل الحياة السياسية العربية منذ أواخر الأربعينيات مع ميلاد البعث, ثم في الخمسينيات والستينيات مع ازدهار التجربة الناصرية في مصر, والتي تميزت بالانحياز لفكرة التنظيم السياسي الواحد إلي أن عمت هذه الصيغة تقريبا المنطقة كلها. ولم يتم تجاوز تلك المرحلة إلا بعد عودة مصر مرة أخري في النصف الثاني من السبعينيات إلي الأخذ بمبدأ التعددية السياسية و-إن كان بشكل مقيد- وكان لها مرة أخري الدور الأبرز في التأثير علي محيطها الإقليمي ليتحول إلي نفس الاتجاه.
وإذا لم نكن هنا بصدد استرجاع الماضي والدخول في تفاصيله, أو حتي تقييمه سلبا أو إيجابا, إلا أن ما يهمنا التوقف عندة هو تلك الظلال الباقية من الحقبة الماضية علي التطور الحزبي في العالم العربي. فلم تكن مصادفة تاريخية أن يرتبط الفكر القومي العربي الاشتراكي بنظام الحزب الواحد, سواء في صورته العقائدية الجامدة أو في أشكاله الأخري الأقل حدة, ومصادرة كل أشكال التعددية السياسية التي يمكن أن تطور في ظلها الحياة الحزبية عموما. فالمنطلق الفكري والأيديولوجي كما عبرت عنه حركة القوميين العرب بتياراتها المختلفة, وما أنتجته من أحزاب سياسية اعتلت السلطة في أغلب التجارب العربية في تلك الحقبة, ارتكز حول ضرورات المواجهة الخارجية والنضال من أجل الاستقلال الوطني واستلزم ذلك بالضرورة' توحيد الأمة' خلف هذا الهدف بحيث اعتبرت التعددية في ذاتها نوعا من الانقسام والفرقة لا تنسجم مع الهدف العام الأكبر. فحق الاختلاف والاجتهاد والتمايز بين القوي السياسية والاجتماعية المختلفة بطبيعتها, لم يكن مطلوبا أو حتي مسموحا أو مرحبا به. واعتبر الحزب الواحد هو الوعاء الوحيد الذي يجب أن تندرج تحته جميع تلك القوي, الأمر الذي أدي عمليا إلي احتكار هذا الوعاء مسألة تمثيل كل التيارات والأفكار والقوي حتي وإن كان بشكل مصطنع. ولاشك أن منطلقات الفكر الاشتراكي التي صاحبت وارتبطت بحركة الفكر القومي العربي غذت بدورها مبدأ التنظيم الواحد. فكانت في النهاية حقبة' الصوت الواحد' و'الزعيم الأوحد', أما الإعلام ووسائل التنشئة السياسية الأخري فقد قامت في الأساس علي أساليب التعبئة والحشد وليس الاختيار الطوعي والإقناع السياسي. وأضحي غياب أو نقص الحريات( الفردية منها والعامة) هنا, مسألة مشروعة لخدمة ما اعتبر هدفا قوميا أسمي وأكبر.[/b]
'الشيء الوحيد الذي علينا أن نخافه هو الخوف ذاته'. استوقفتني هذه العبارة وأنا أقلب في صفحات هذا الملف المهم حول' تجديد الحياة الحزبية العربية'. فالتجديد مرادف للتغيير البناء وللإصلاح والتحديث, وهي باختصار قضايانا المعاصرة المطروحة بقوة علي مجتمعاتنا العربية في تلك المرحلة الدقيقة من تطور تجاربنا السياسية بكل جوانبها الاجتماعية والثقافية.
والتغيير-أي تغيير- يثير بحكم التعريف, الكثير من المخاوف والهواجس بل ويخلق هموما وتحديات يصعب تجاوزها دون أن نكسر حاجز الخوف بداخلنا. فالموروث القديم والتقاليد المعتادة والأساليب المجربة, بغض النظر عن مستوي صحتها أو فعاليتها أو حتي تكيفها مع الواقع المعاصر المتجدد, قد تخلق عبر الزمن حاجزا يقف ليس فقط دون اقتحام أي جديد, ولكن أحيانا دون حتي القدرة علي تجريب ما هو مختلف.
والواقع, وبنظرة موضوعية, فإن تلك الحالة ليست حالة خاصة, أو فريدة قاصرة علي المجتمعات النامية أو العربية أو التي مازالت تعيش مراحل انتقالية مختلفة في سبيل تطوير تجاربها السياسية والديمقراطية, وإنما هي حالة عامة تمتد لتشمل مختلف المجتمعات والتجارب حتي المتقدمة منها. فالعبارة المشار إليها إنما جاءت في إحدي الخطب الشهيرة للرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي, والتي روجت لمجموعة من الإصلاحات الجوهرية الداخلية تدشن بها مرحلة جديدة من العمل السياسي, استلزمت مراجعة الكثير من القواعد الثابتة المستقرة وكسر حاجز التقاليد القديمة حتي سميت حزمة الإصلاحات هذه' بالعهد الجديد''NewDeal'.
إذن فالتخوف من التغيير أو من إدخال عناصر جديدة إلي سياسات قديمة لا يتعلق بحجم الدول ولا بثراء أو فقر تجربتها السياسية. فالقاعدة تنطبق علي جميع الحالات أو الدول, سواء الكبيرة منها أو المتوسطة أو الصغيرة. فالخوف هنا هو أمر منطقي يمكن تفهمه واستيعابه, ولكن تظل القدرة والكيفية التي يتم بها التعامل معه هي التي تصنع الفرق وتميز بين التجارب المختلفة.
وربما تعد هذه المقدمة لازمة ونحن نفتح ملفا حيويا حول الأحزاب السياسية العربية ودورها المنشود في عمليات الإصلاح والتحديث والتطوير الديمقراطي والتي قد تستوجب تغيير أو مراجعة الكثير من المنطلقات الفكرية والسياسية قبل تلك التنظيمية والمؤسسية, مثلما قد تتجاوز مجرد إدماج أجيال جديدة من الناحية العمرية( أي تمثل فئة الشباب). فالفئة العمرية في حد ذاتها قد لا تعني شيئا إذا لم تحمل أفكارا واختيارات وبدائل جديدة أو مختلفة فالتجديد المقصود هنا يكتسب معني فكريا وسياسيا بالأساس إلي جانب محتواه الجيلي.
إن الحياة الحزبية السليمة هي عماد أي نظام سياسي حديث يقوم علي التعددية والانفتاح والتنافس السلمي الحر بين مختلف القوي السياسية والاجتماعية في المجتمع علي قاعدة من التكافؤ والمساواة الدستورية والقانونية. فمشاركة المجتمع في العملية السياسية لا تتأتي بدون أطر حزبية تنظمها, وتفتح لها قنوات شرعية للتعبير عن مطالب أو مصالح تلك القوي, بصورة تتجاوز المصالح الفئوية الضيقة أو الانتماءات الأولية التقليدية( مثل الانتماءات العصبية أو العائلية والقبلية والعشائرية وما شابهها). ومن هنا فإن الأحزاب مثلما تكون إطارا لتجميع المصالح والتعبير عنها أي إطارا لتوسيع قاعدة المشاركة السياسية, فإنها أيضا وبالضرورة تصبح وسيلة أساسية للتحديث في مجال العمل السياسي ببعديه الثقافي والمؤسسي. وبدون تلك الوظيفة الجوهرية, أي( الوظيفة التحديثية) تصبح الأحزاب إطارا فارغا من المضمون.
في هذا السياق, هناك الكثير مما يمكن أن يقال حول ظروف نشأة وتطور الأحزاب العربية وحول مجمل تجربتها عبر التاريخ الحديث. فالخبرة العربية عرفت التشكيلات الحزبية بشكل مبكر, وتنقلت من شكل إلي آخر وفق ظروف ومتطلبات تطور حياتها السياسية والاجتماعية والثقافية المعاصرة. وعبر كل تلك المراحل كانت تحمل معها إرثها التاريخي الطويل الذي ربما ساعدها علي التحديث والتطوير في لحظات معينة وكبلها بقيود ثقيلة في لحظات أخري. محطات عديدة توقفت عندها التجربة الحزبية العربية, فكانت إما تضيف إليها أو تنتقص منها, ولكنها في كل الأحوال استمرت في طريقها تبطئ حينا وتتعثر حينا, وتمضي وتنطلق حينا آخر.
لم تشهد الأحزاب العربية نفس ميلاد ونشأة الأحزاب الأوروبية والأمريكية التي عرفتها الخبرة الغربية منذ ما يقرب من القرنين من الزمان, والتي اقترنت بالثورة الصناعية وما صاحبها من تغيرات اجتماعية واقتصادية جذرية, فضلا عن تطور التكوين المؤسساتي الحديث للدولة, وهو ما أدي بالتالي إلي تزايد أسباب وعوامل المشاركة السياسية. بعبارة أخري إن الأحزاب السياسية في الخبرة الغربية كانت الوليد الطبيعي للمرحلة الصناعية وللحداثة. وهي شروط لم تتوافر كلها أو بعضها أو بنسب مختلفة في التجربة العربية. ففي بعض حالاتها كان الافتقاد إلي, أو ضعف البنية المؤسسية للدولة ورسوخ المكونات التقليدية للمجتمع, معوقا أساسيا لتطور حياتها الحزبية والسياسية عموما, حيث ظلت وحدات الانتماء الأولية مثل العائلة أو القبيلة أو العشيرة أو المذهب والطائفة, تسبق أي انتماء سياسي قومي عام, بل وتتجاوزه, هو ما جعل البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية غير مواتية للتطور الحزبي. إذ ظلت الأحزاب في الغالب تنظيما سياسيا حديثا في بيئة تقليدية. صحيح أنه كانت هناك فوارق واختلافات جوهرية من حالة إلي أخري, ولكن الحالات التي قطعت شوطا مهما من الت
حديث والتطور ربما شكلت الاستثناء, كالحالة المصرية علي سبيل المثال, والتي بدأت عملية التحديث والبناء السياسي المؤسسي فيها منذ أواخر القرن18 وأوائل القرن19, مع انطلاق مشروع نهضتها الكبير في ظل تجربة محمد علي الرائدة والتي وضعت الأساس الصلب لقيام الدولة القومية علي أسس حديثة في مصر.
وكما كانت معضلة التحديث بأبعادها ومستوياتها المختلفة تشكل إحدي الإشكاليات أمام تطور التجربة الحزبية العربية, فإن الخبرة السياسية والتاريخية ظلت بدورها تمثل معضلة أخري ألقت- ومازالت- بظلالها علي تلك التجربة بشكل عام.
فمعظم الأحزاب السياسية العربية تأسست في ظل الحقبة الاستعمارية بمعني أن الوعي السياسي الذي عبر عن نفسه من خلال الأطر الحزبية تشكل في ظرف تاريخي خاص, وهو النضال من أجل الاستقلال. فالوجود الاستعماري كان هو المحفز الرئيسي لنشأة غالبيتها باستثناء الحقبة الليبرالية الأولي, وهي الوريث الطبيعي لعصر النهضة المصرية والعربية الحديثة, والتي تنوعت فيها الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية للأحزاب, بحكم انتشار الثقافة الليبرالية والدستورية القانونية ومبادئ الحقوق والحريات المدنية, فإن مرحلة ما بعد الاستقلال والتي اتسمت بالثورية حملت مشاريع سياسية أخري كبري لم تتسق بالضرورة مع متطلبات التعددية السياسية الحزبية أو التطور الديمقراطي بشكل عام. وهي الحقبة التي تميزت بسيادة الأيديولوجية القومية العربية والتوجهات الاشتراكية, وشهدت ميلاد حركة القوميين العرب والأحزاب القومية والبعثية والناصرية, والتي هيمنت علي مجمل الحياة السياسية العربية منذ أواخر الأربعينيات مع ميلاد البعث, ثم في الخمسينيات والستينيات مع ازدهار التجربة الناصرية في مصر, والتي تميزت بالانحياز لفكرة التنظيم السياسي الواحد إلي أن عمت هذه الصيغة تقريبا المنطقة كلها. ولم يتم تجاوز تلك المرحلة إلا بعد عودة مصر مرة أخري في النصف الثاني من السبعينيات إلي الأخذ بمبدأ التعددية السياسية و-إن كان بشكل مقيد- وكان لها مرة أخري الدور الأبرز في التأثير علي محيطها الإقليمي ليتحول إلي نفس الاتجاه.
وإذا لم نكن هنا بصدد استرجاع الماضي والدخول في تفاصيله, أو حتي تقييمه سلبا أو إيجابا, إلا أن ما يهمنا التوقف عندة هو تلك الظلال الباقية من الحقبة الماضية علي التطور الحزبي في العالم العربي. فلم تكن مصادفة تاريخية أن يرتبط الفكر القومي العربي الاشتراكي بنظام الحزب الواحد, سواء في صورته العقائدية الجامدة أو في أشكاله الأخري الأقل حدة, ومصادرة كل أشكال التعددية السياسية التي يمكن أن تطور في ظلها الحياة الحزبية عموما. فالمنطلق الفكري والأيديولوجي كما عبرت عنه حركة القوميين العرب بتياراتها المختلفة, وما أنتجته من أحزاب سياسية اعتلت السلطة في أغلب التجارب العربية في تلك الحقبة, ارتكز حول ضرورات المواجهة الخارجية والنضال من أجل الاستقلال الوطني واستلزم ذلك بالضرورة' توحيد الأمة' خلف هذا الهدف بحيث اعتبرت التعددية في ذاتها نوعا من الانقسام والفرقة لا تنسجم مع الهدف العام الأكبر. فحق الاختلاف والاجتهاد والتمايز بين القوي السياسية والاجتماعية المختلفة بطبيعتها, لم يكن مطلوبا أو حتي مسموحا أو مرحبا به. واعتبر الحزب الواحد هو الوعاء الوحيد الذي يجب أن تندرج تحته جميع تلك القوي, الأمر الذي أدي عمليا إلي احتكار هذا الوعاء مسألة تمثيل كل التيارات والأفكار والقوي حتي وإن كان بشكل مصطنع. ولاشك أن منطلقات الفكر الاشتراكي التي صاحبت وارتبطت بحركة الفكر القومي العربي غذت بدورها مبدأ التنظيم الواحد. فكانت في النهاية حقبة' الصوت الواحد' و'الزعيم الأوحد', أما الإعلام ووسائل التنشئة السياسية الأخري فقد قامت في الأساس علي أساليب التعبئة والحشد وليس الاختيار الطوعي والإقناع السياسي. وأضحي غياب أو نقص الحريات( الفردية منها والعامة) هنا, مسألة مشروعة لخدمة ما اعتبر هدفا قوميا أسمي وأكبر.[/b]