التلصّص
رواية
صنع الله إبراهيم
القاهرة 1948. جيش الإحتلال الإنجليزي ينتقل إلى قناة السويس. الأحكام العرفية مطبقة. الجيش المصري يدخل فلسطين بعد اعلان دولة اسرائيل. الغلاء ومغامرات الملك النسائية هما حديث الشارع. مظاهرات الطلبة واعتصامات رجال الشرطة والممرضين. الإغتيالات السياسية ومحاكمة أنور السادات. قنابل الأخوان المسلمين ومطاردة الشيوعيين. أم كلثوم في حفلتها الشهرية بمسرح الأزبكية. أغاني محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وليلي مراد وأسمهان. أفلام يوسف وهبي وحسين صدقي ومحمد فوزي وتحية كاريوكا وسامية جمال.
على هذه الخلفية تدور دراما صغيرة لصبي في التاسعة من عمره وأب في الخامسة والستين محورها السعي وراء دفء المرأة.
الفصل الأول
1
يتمهل أبي في مدخل المنزل قبل أن نخطو إلي الحارة. يرفع يده إلى فمه. يتحسس طرفي شاربه الرمادي الملويين إلى أعلى. يتأكد من أن طربوشه مائل قليلا ناحية اليسار. ينزع سيجارته السوداء المطفأة من ركن فمه. ينفض رمادها عن صدر معطفه الأسود الثقيل. يبسط أساريره لتتلاشى تجاعيد جبهته. يرسم ابتسامة على شفتيه. يقبض على يدي اليسري. نتلمس طريقنا في ضوء الغروب.
نتجه يمينا نحو الفتحة الوحيدة للحارة. ندلف إلى الشارع الذي يعج بالمارة والحوانيت. بقالة الحاج " عبد العليم"، شيخ الحارة. ينادينا:
ـ تفضل يا "خليل" بيه.
يجيب أبي في وقار: حنمر واحنا راجعين.
دكان الخردواتي. يشع بالنظافة وتتصاعد منه رائحة الفنيك. باترينة زجاجية رصت داخلها قطع الشكولاتة والحلوى. أجذب يد أبي ناحيتها فينهرني. الجزمجي. المقاعد المرتفعة و أسفلها ماسحو الأحذية. حامل الصحف في المدخل والراديو الضخم في المؤخرة. كوّاء الطرابيش. القاعدة النحاسية المستطيلة وفوقها القوالب النحاسية الضخمة. وأخيراَ الميدان.
الأنوار باهتة في لحظة أول الليل. صورة الملك مضاءة بالمصابيح. لافتات تهنؤه بعيد ميلاده. لوحات الإعلانات السينمائية. فيلم "الشاطر حسن" به قسم بالألوان الطبيعية. "الفارس الأسود" بسينما "ميامي" والترجمة العربية على نفس الفيلم. أشعر بلسعة هواء باردة أحسها في ركبتي المكشوفة يين حافة البنطلون القصير و الشراب الصوفي الطويل. يدي اليسرى دافئة في قبضة أبي القوية. الترام رقم 22 بعربتيه المكشوفتين ودككه الخشبية. أسابقه مع الأولاد من جهة اليسارلنقفز إليه ونثبت بذلك قدرتنا علي التهرب من الكمساري. أوشك أن أقع تحت عجلات الترام المعاكس.
نستقل العربة الثانية. يزنقني في الركن لأبدو أقل من سني. يستخرج من جيب الصديري ثمانية مليمات للتذكرة. نغادر في ميدان "السيدة" الحافل بالأضواء. عربة "سوارس". يجرها بغلان ضامران. يملأ الركاب دكتين متقابلتين ويقف بعضهم على السلم الخلفي. سوط السائق يلسع ظهر الحيوانين. عجوز سمينة تفترش الأرض خلف صينية من أعقاب السجائر. مكان ضيق في نهايته طاولة صغيرة يعلوها حاجز زجاجي. عجوز محني الظهر ذو لحية كثيفة. يخرج أبي ساعة جيبه المستديرة من جيب صديريته. يتفحصها العجوزبدقة ثم يضعها جانبا. يعطي أبي بعض النقود.
الشارع من جديد. بائع يانصيب علق أوراقه علي الحائط. يخرج أبي ورقتين من جيبه ونظارة القراءة. يقارن أرقامهما بدفاتر البائع. يكمش الورقتين ويلقي بهما في الطريق. يشتري ورقتين جديدتين. واحدة باللون الأزرق والثانية بالأحمر.
صف من باعة الأشياء القديمة وماسحي الأحذية. كوم من النظارات القديمة فوق جريدة على الأرض. البائع يرتدي نظارة طبية مكسورة من المنتصف وملحومة بقطعة بارزة من الصفيح. ينحني أبي ويقلب بين النظارات. يختار واحدة ويطلب مني أن أرتديها. أضع النظارة فوق عيني وأتطلع حولي. أجرب نظارة أخرى. ثالثة بيضاوية في إطار رفيع من معدن مذهب. أشعر بتحسن في الرؤية. يفاصل أبي في ثمنها. يشتريها.
أرتدي النظارة وأتبع أبي حتى دكان عطارة. يشتري قرفة وفلفل أسود مطحون وقرنفل. أرى الآن بوضوح.
مرة أخرى في عربة الترام المكشوفة. نصعد القمرة الأخيرة المسقوفة التي تحوي دكة واحدة موضوعة بعكس الاتجاه. نمر كالسهم بمحطة اختيارية خالية. ينبعث الشرر من السنجة. أضع يدي على نظارتي خوفا من أن تطير. ندلف إلى ميدان "الظاهر". سينما"فاليري" الصيفية مغلقة. أمي في فستان ملون. رأسها مغطى بإيشارب حريري يحيط بوجهها. في قدمها حذاء بكعب متوسط الارتفاع مقفول من الأمام. لونه أزرق مع أبيض. تجلس في مقعد بذراعين من القش. أهم بالجلوس فوق فخذيها فتبعدني عنها. يأخذني أبي بين ساقيه. يمر بنا بائع في جلباب نظيف علّق في ذراعه سبتًا مغطى بالقماش. يشتري أبي لكل منا سميطة بالسمسم. يعطينا البائع معها شريحة من الجبن الرومي فوق ورقة في حجم الكف.
رواية
صنع الله إبراهيم
القاهرة 1948. جيش الإحتلال الإنجليزي ينتقل إلى قناة السويس. الأحكام العرفية مطبقة. الجيش المصري يدخل فلسطين بعد اعلان دولة اسرائيل. الغلاء ومغامرات الملك النسائية هما حديث الشارع. مظاهرات الطلبة واعتصامات رجال الشرطة والممرضين. الإغتيالات السياسية ومحاكمة أنور السادات. قنابل الأخوان المسلمين ومطاردة الشيوعيين. أم كلثوم في حفلتها الشهرية بمسرح الأزبكية. أغاني محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وليلي مراد وأسمهان. أفلام يوسف وهبي وحسين صدقي ومحمد فوزي وتحية كاريوكا وسامية جمال.
على هذه الخلفية تدور دراما صغيرة لصبي في التاسعة من عمره وأب في الخامسة والستين محورها السعي وراء دفء المرأة.
الفصل الأول
1
يتمهل أبي في مدخل المنزل قبل أن نخطو إلي الحارة. يرفع يده إلى فمه. يتحسس طرفي شاربه الرمادي الملويين إلى أعلى. يتأكد من أن طربوشه مائل قليلا ناحية اليسار. ينزع سيجارته السوداء المطفأة من ركن فمه. ينفض رمادها عن صدر معطفه الأسود الثقيل. يبسط أساريره لتتلاشى تجاعيد جبهته. يرسم ابتسامة على شفتيه. يقبض على يدي اليسري. نتلمس طريقنا في ضوء الغروب.
نتجه يمينا نحو الفتحة الوحيدة للحارة. ندلف إلى الشارع الذي يعج بالمارة والحوانيت. بقالة الحاج " عبد العليم"، شيخ الحارة. ينادينا:
ـ تفضل يا "خليل" بيه.
يجيب أبي في وقار: حنمر واحنا راجعين.
دكان الخردواتي. يشع بالنظافة وتتصاعد منه رائحة الفنيك. باترينة زجاجية رصت داخلها قطع الشكولاتة والحلوى. أجذب يد أبي ناحيتها فينهرني. الجزمجي. المقاعد المرتفعة و أسفلها ماسحو الأحذية. حامل الصحف في المدخل والراديو الضخم في المؤخرة. كوّاء الطرابيش. القاعدة النحاسية المستطيلة وفوقها القوالب النحاسية الضخمة. وأخيراَ الميدان.
الأنوار باهتة في لحظة أول الليل. صورة الملك مضاءة بالمصابيح. لافتات تهنؤه بعيد ميلاده. لوحات الإعلانات السينمائية. فيلم "الشاطر حسن" به قسم بالألوان الطبيعية. "الفارس الأسود" بسينما "ميامي" والترجمة العربية على نفس الفيلم. أشعر بلسعة هواء باردة أحسها في ركبتي المكشوفة يين حافة البنطلون القصير و الشراب الصوفي الطويل. يدي اليسرى دافئة في قبضة أبي القوية. الترام رقم 22 بعربتيه المكشوفتين ودككه الخشبية. أسابقه مع الأولاد من جهة اليسارلنقفز إليه ونثبت بذلك قدرتنا علي التهرب من الكمساري. أوشك أن أقع تحت عجلات الترام المعاكس.
نستقل العربة الثانية. يزنقني في الركن لأبدو أقل من سني. يستخرج من جيب الصديري ثمانية مليمات للتذكرة. نغادر في ميدان "السيدة" الحافل بالأضواء. عربة "سوارس". يجرها بغلان ضامران. يملأ الركاب دكتين متقابلتين ويقف بعضهم على السلم الخلفي. سوط السائق يلسع ظهر الحيوانين. عجوز سمينة تفترش الأرض خلف صينية من أعقاب السجائر. مكان ضيق في نهايته طاولة صغيرة يعلوها حاجز زجاجي. عجوز محني الظهر ذو لحية كثيفة. يخرج أبي ساعة جيبه المستديرة من جيب صديريته. يتفحصها العجوزبدقة ثم يضعها جانبا. يعطي أبي بعض النقود.
الشارع من جديد. بائع يانصيب علق أوراقه علي الحائط. يخرج أبي ورقتين من جيبه ونظارة القراءة. يقارن أرقامهما بدفاتر البائع. يكمش الورقتين ويلقي بهما في الطريق. يشتري ورقتين جديدتين. واحدة باللون الأزرق والثانية بالأحمر.
صف من باعة الأشياء القديمة وماسحي الأحذية. كوم من النظارات القديمة فوق جريدة على الأرض. البائع يرتدي نظارة طبية مكسورة من المنتصف وملحومة بقطعة بارزة من الصفيح. ينحني أبي ويقلب بين النظارات. يختار واحدة ويطلب مني أن أرتديها. أضع النظارة فوق عيني وأتطلع حولي. أجرب نظارة أخرى. ثالثة بيضاوية في إطار رفيع من معدن مذهب. أشعر بتحسن في الرؤية. يفاصل أبي في ثمنها. يشتريها.
أرتدي النظارة وأتبع أبي حتى دكان عطارة. يشتري قرفة وفلفل أسود مطحون وقرنفل. أرى الآن بوضوح.
مرة أخرى في عربة الترام المكشوفة. نصعد القمرة الأخيرة المسقوفة التي تحوي دكة واحدة موضوعة بعكس الاتجاه. نمر كالسهم بمحطة اختيارية خالية. ينبعث الشرر من السنجة. أضع يدي على نظارتي خوفا من أن تطير. ندلف إلى ميدان "الظاهر". سينما"فاليري" الصيفية مغلقة. أمي في فستان ملون. رأسها مغطى بإيشارب حريري يحيط بوجهها. في قدمها حذاء بكعب متوسط الارتفاع مقفول من الأمام. لونه أزرق مع أبيض. تجلس في مقعد بذراعين من القش. أهم بالجلوس فوق فخذيها فتبعدني عنها. يأخذني أبي بين ساقيه. يمر بنا بائع في جلباب نظيف علّق في ذراعه سبتًا مغطى بالقماش. يشتري أبي لكل منا سميطة بالسمسم. يعطينا البائع معها شريحة من الجبن الرومي فوق ورقة في حجم الكف.