[b][b]المبادرات الإصلاحية والتصالحية: حقيقتها وأهدافها
تجتاح المنطقة الشرق أوسطية مبادرات ومشاريع إصلاحية آتية من الغرب، وبالذات من أميركا. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي حقيقة هذه المبادرات؟ وما هي أهدافها؟ ثم ما هو موقف الحكومات العميلة منها؟ في هذا المقال سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة، إن شاء الله تعالى.
بداية لا بد لنا من ملاحظة هرولة جميع حكومات البلدان الإسلامية نحو موجة الإصلاحات التي هبَّت على المنطقة من قبل أميركا والغرب، فركبتها وتموجت معها بأسلوب أو بآخر. ويبدو أن الموجة الإصلاحية التي تجتاح المنطقة عاتيةٌ لدرجة أنه كان لا بد للأنظمة الحاكمة من التكيف معها، والتعاطي مع أطروحاتها.
وللوقوف على حقيقة ظاهرة هذه المبادرات، كان لا بد لنا بدايةً من تحري أسبابها، ومن ثم سبر أغوارها وكشف أهدافها ورصد أبعادها. ويمكن تقسيم أسباب هذه الظاهرة إلى مجموعتين: حقيقية وتضليلية، أما أسباب المجموعة الحقيقية لهذه الظاهرة فهي أربعة، هي:
أولاً: إحساس الغرب لأول مرة بخطر الإسلام الحقيقي الذي بات يستشعره كل مواطن غربي، وذلك مع تنامي قوة التيارات الإسلامية وتعاظم مظاهر الصحوة الإسلامية، والذي عزَّز هذا الإحساس أكثر بالخطر هو عجز الحكومات الشرق أوسطية التام عن مواجهة ظاهرة تنامي تلك التيارات الإسلامية، أو عجزها عن احتوائها ، وذلك على الرغم من دعم دول الغرب اللامحدود لهذه الحكومات لعشرات السنين في محاربتها لتلك التيارات.
ثانياً: تحول مجتمعات بلدان الشرق الأوسط - بحسب رأي الغرب - إلى مجتمعات حاضنة لما يسمونه بالإرهاب والتطرف، الأمر الذي أصبح يؤثر على استقرار العالم، وليس على استقرار دول الغرب فقط؛ لذلك ليس غريباً أن يزايد مرشح الحزب الديمقراطي الأميركي للرئاسة جون كيري على الرئيس الأميركي جورج بوش بالقول بأنه سيتشدد في العلاقات الأميركية الخارجية مع السعودية، بالرغم من تعاونها مع أميركا تعاوناً تاماً. ويبالغ الغرب في تصعيده للصراع مع الإسلام لدرجة أن أحد المفكرين الأميركيين البارزين اعتبر الإرهاب واحداً من ثلاثة أبعاد تشكلها لعبة القوة العالمية، ويقول هذا المفكر واسمه (جوزيف ناي) وهو عميد كلية نظم الحكومات في جامعة هارفارد الأميركية، ووكيل سابق لوزارة الدفاع في عهد الرئيس الأميركي السابق كلينتون: «إن حقيقة القوة في العالم أشبه برقعة الشطرنج ثلاثية الأبعاد، حيث يقع في قمتها القوة العسكرية، وهي أحادية القطبية بشكل واضح. فالولايات المتحدة هي القوة الوحيدة التي تمتلك أسلحة عابرة للقارات، وقوات برية وبحرية وجوية قادرة على الانتشار عالمياً، وفي وسط الرقعة تقع القوة الاقتصادية، وهي متعددة الأقطاب، حيث تمثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان ثلثي الناتج العالمي. وفي هذا البعد الاقتصادي فإن الولايات المتحدة ليست قوة مهيمنة، وإن عليها أن تساوم أوروبا كطرف متساوٍ، وهذا الوضع هو الذي جعل بعض المراقبين يسمون العالم اليوم بعالم هجين من تعدد وتفرد الأقطاب، وأما في أسفل رقعة الشطرنج فهناك لاعبين غير حكوميين، منهم رجال البنوك، ومنهم كذلك الإرهابيين»، وربما هذا يفسر سبب أن كل المؤتمرات الدولية والإقليمية التي عقدت بعد الحادي عشر من أيلول عام 2001م كان (الإرهاب) على رأس جدول أعمالها.
(فالإرهاب) على حد وصفهم أصبح أحد مكونات الموقف الدولي، وصار جزءاً من العلاقات الدولية، وأصبحت مواجهته تتطلب جهوداً دولية تقودها الدولة الأولى في العالم.
وخطورة هذا (الإرهاب) بالنسبة لأميركا والغرب لا تكمن في ما يُشاهد على الأرض من بعض الأعمال العسكرية التي تقوم بها بعض الخلايا المبعثرة هنا وهناك وحسب، بل تكمن في المجهول المخيف الذي ينتظر الغرب قدومه من تحت الأرض، فهذا المجهول بالذات هو الذي يعكِّر نظرتهم إلى مستقبلهم، والذي لا يدرون طبيعة وحجم مخاطره عليهم. فهم يخشون أن ينجح المسلمون في إقامة دولة إسلامية حقيقية تعبِّر عن توجه مجتمعاتهم الجارف نحو الإسلام السياسي والجهادي، ونحو معاداة الغرب، ولعل ريتشارد مايرز رئيس هيئة الأركان الأميركية قد عبَّرَ عن هذه الخشية أمام لجنة في الكونغرس الأميركي بالقول: «إن هذه الحركات الإسلامية المتطرفة هدفها إقامة نظام الخلافة في المنطقة والعودة إلى القرن السابع» وعندها سوف تقوم هذه الدولة بنفسها بإدارة المعركة، وإدارة ما يسمونه (إرهاباً)، وهذا ما يقلق الغرب فعلاً.
ثالثاً: استغلال أميركا لتفوقها الكاسح في الموقف الدولي بعد زوال الاتحاد السوفياتي جعلها تفكر ملياً بالهيمنة على جميع دول العالم بلا استثناء، والطريق إلى هذه الهيمنة يمر من الشرق الأوسط؛ لأن السيطرة على منطقة الشرق الأوسط والإطباق عليها لا تعني السيطرة على المسلمين في تلك المنطقة وحسب، بل تعني أيضاً السيطرة على أوروبا وروسيا وكل دول العالم. فهذه المنطقة هي مفتاح المستقبل لكل دول العالم، فمن حاز المفتاح تحكم في العالم. فبحجة تلافي الخطر الإسلامي المنبعث من هذه المنطقة، والذي يهدد الدول الكبرى والصغرى بوصفه خطراً مشتركاً داهماً، بهذه الحجة يجب إذاً على الجميع الانضواء تحت راية أميركا، ولذلك فمن حق أميركا -كما تدعي- أن تتفرد بقيادة العالم لكي تمنع هذا الخطر!!.
رابعاً: فرض السيطرة الأميركية الدائمة على منابع بترول الشرق الأوسط، والذي يمثل ثلثي نفط العالم ويزوده بالطاقة، لذلك كان نفط الشرق الأوسط من حيث الحجم والنوع والموقع والإمدادات، لا غنى عنه للعالم ولا بديل له على الأقل لمدة الخمسين سنة القادمة.
هذه هي الأسباب الحقيقية للمبادرات الإصلاحية، أما الأسباب التضليلية لها فقبل الخوض فيها لا بد من بحث مقدماتها لكي يسهل كشف أهدافها، فبدايات هذه المشاريع كانت اقتصادية، فوجد أولاً المشروع الأوروبي المسمى (بالمبادرة الأورومتوسطية) وانطلق من برشلونة رسمياً في العام 1995م، ثم تبعه المشروع الأميركي المسمى بمبادرة (الشراكة الأميركية الشرق أوسطية) كردٍّ على المشروع الأوروبي. ثم تطورت هذه المشاريع الاقتصادية إلى مشاريع سياسية، فجاء مشروع كولن باول لدعم الديمقراطية وإشراك المرأة، ورصد له مبلغ 29مليون دولار، وأخيراً جاء مشروع (الشرق الأوسط الكبير) في شباط من هذا العام 2004م ليكون تتويجاً لهذه المشاريع، وشاملاً للجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وتم عرضه ومناقشته في مجموعة الدول الثماني الكبار، وفي مؤتمر حلف الناتو، ومع الاتحاد الأوروبي.
حاولت أوروبا في البداية التنافس مع أميركا على هذا المشروع من خلال رؤية قدَّمها وزير خارجية ألمانيا يوشكا فيشر، وتبنت هذه الرؤية فرنسا وألمانيا، وحاولتا جعله مشروعاً أوروبياً، لكن أميركا ضغطت على الأوروبيين، واسترضتهم، ليكون مشروع (الشرق الأوسط الكبير) هو مشروع الجميع، وهو المشروع الوحيد الذي سيعرض على دول المنطقة، ثم صارت أميركا تروج للمشرع وكأنه نموذج جديد عن اتفاقية هلسنكي التي عقدها الغرب مع دول أوروبا الشرقية في العام 1975م، والتي ساهمت في إسقاط الشيوعية فيما بعد.
لكن اتفاقية هلسنكي التي وُصِفت بأنها اتفاقية ناجحة بكل المقاييس، كانت تعتمد في نجاحها على عاملين اثنين هما:
1- القوى السياسية المعارضة للشيوعية والموالية للرأسمالية، والتي كانت معبأة فكرياً ضد الاتحاد السوفياتي في دول أوروبا الشرقية الاشتراكية.
2- وجود ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني النشطة والجاهزة للمشاركة في تطبيق الرأسمالية بشكل مباشر.
ومثل هذين العاملين مفقودين تماماً من دول الشرق الأوسط التي تدين شعوبها بالإسلام. فالقوى الشعبية والسياسية المعارضة فيها تعادي أميركا والغرب عداءً شديداً، ومؤسسات المجتمع المدني فيها مؤسسات ميتة عديمة التأثير، لأن هياكل الحكم في البلاد الإسلامية هياكل فارغة من أي مضمون. وهي وإن كانت تعتبر ديمقراطية شكلاً، إلا أنها من حيث الجوهر أنظمة دكتاتورية تعتمد على العشيرة أو الفرد، ولا يوجد لها ضوابط دستورية أو قانونية أو فكرية.
صحيح أن هذه الأنظمة تحاول مراضاة أميركا فتقوم بمحاكاة الغرب في الإصلاحات المطلوبة منها، لكنها لم تنجح في ذلك، فمثلاً تحاول هذه الأنظمة جاهدة أن تعمل على إيجاد مؤسسات مجتمع مدني كما هو عند الغرب، ولكن هذه المؤسسات لا تصلح لتولي أية سلطات في المستقبل. ومثلاً تحاول إيجاد نظام انتخابي على الطريقة الغربية، ولكنه لا يمكن إلا أن يكون غير نـزيه، ومثلاً تحاول إيجاد نظام قضائي مفصول عن الجهاز التنفيذي كما هو الحال في الدول الغربية، ولكنه يبقى دائماً جزءاً منه لا يملك الانفكاك عنه.
وهكذا نجد أن سابقة هلسنكي التي نجحت في أوروبا الشرقية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ستفشل مثيلاتها قطعاً في بلاد المسلمين. لذلك نجد أميركا كعادتها عند فشلها تسعى إلى الالتفاف حول الفكرة، والتي تدعي بأنها يجب أن تنبع من الداخل، وذلك من خلال قيامها بأعمال الغزو العسكري، وفرض الإصلاحات على هذه الدول من الخارج، وذلك كما حدث في أفغانستان مع قراضاي وإصلاحاته، أو كما حصل في العراق مع حكومة علاوي وإصلاحاتها!![/b]
تجتاح المنطقة الشرق أوسطية مبادرات ومشاريع إصلاحية آتية من الغرب، وبالذات من أميركا. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي حقيقة هذه المبادرات؟ وما هي أهدافها؟ ثم ما هو موقف الحكومات العميلة منها؟ في هذا المقال سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة، إن شاء الله تعالى.
بداية لا بد لنا من ملاحظة هرولة جميع حكومات البلدان الإسلامية نحو موجة الإصلاحات التي هبَّت على المنطقة من قبل أميركا والغرب، فركبتها وتموجت معها بأسلوب أو بآخر. ويبدو أن الموجة الإصلاحية التي تجتاح المنطقة عاتيةٌ لدرجة أنه كان لا بد للأنظمة الحاكمة من التكيف معها، والتعاطي مع أطروحاتها.
وللوقوف على حقيقة ظاهرة هذه المبادرات، كان لا بد لنا بدايةً من تحري أسبابها، ومن ثم سبر أغوارها وكشف أهدافها ورصد أبعادها. ويمكن تقسيم أسباب هذه الظاهرة إلى مجموعتين: حقيقية وتضليلية، أما أسباب المجموعة الحقيقية لهذه الظاهرة فهي أربعة، هي:
أولاً: إحساس الغرب لأول مرة بخطر الإسلام الحقيقي الذي بات يستشعره كل مواطن غربي، وذلك مع تنامي قوة التيارات الإسلامية وتعاظم مظاهر الصحوة الإسلامية، والذي عزَّز هذا الإحساس أكثر بالخطر هو عجز الحكومات الشرق أوسطية التام عن مواجهة ظاهرة تنامي تلك التيارات الإسلامية، أو عجزها عن احتوائها ، وذلك على الرغم من دعم دول الغرب اللامحدود لهذه الحكومات لعشرات السنين في محاربتها لتلك التيارات.
ثانياً: تحول مجتمعات بلدان الشرق الأوسط - بحسب رأي الغرب - إلى مجتمعات حاضنة لما يسمونه بالإرهاب والتطرف، الأمر الذي أصبح يؤثر على استقرار العالم، وليس على استقرار دول الغرب فقط؛ لذلك ليس غريباً أن يزايد مرشح الحزب الديمقراطي الأميركي للرئاسة جون كيري على الرئيس الأميركي جورج بوش بالقول بأنه سيتشدد في العلاقات الأميركية الخارجية مع السعودية، بالرغم من تعاونها مع أميركا تعاوناً تاماً. ويبالغ الغرب في تصعيده للصراع مع الإسلام لدرجة أن أحد المفكرين الأميركيين البارزين اعتبر الإرهاب واحداً من ثلاثة أبعاد تشكلها لعبة القوة العالمية، ويقول هذا المفكر واسمه (جوزيف ناي) وهو عميد كلية نظم الحكومات في جامعة هارفارد الأميركية، ووكيل سابق لوزارة الدفاع في عهد الرئيس الأميركي السابق كلينتون: «إن حقيقة القوة في العالم أشبه برقعة الشطرنج ثلاثية الأبعاد، حيث يقع في قمتها القوة العسكرية، وهي أحادية القطبية بشكل واضح. فالولايات المتحدة هي القوة الوحيدة التي تمتلك أسلحة عابرة للقارات، وقوات برية وبحرية وجوية قادرة على الانتشار عالمياً، وفي وسط الرقعة تقع القوة الاقتصادية، وهي متعددة الأقطاب، حيث تمثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان ثلثي الناتج العالمي. وفي هذا البعد الاقتصادي فإن الولايات المتحدة ليست قوة مهيمنة، وإن عليها أن تساوم أوروبا كطرف متساوٍ، وهذا الوضع هو الذي جعل بعض المراقبين يسمون العالم اليوم بعالم هجين من تعدد وتفرد الأقطاب، وأما في أسفل رقعة الشطرنج فهناك لاعبين غير حكوميين، منهم رجال البنوك، ومنهم كذلك الإرهابيين»، وربما هذا يفسر سبب أن كل المؤتمرات الدولية والإقليمية التي عقدت بعد الحادي عشر من أيلول عام 2001م كان (الإرهاب) على رأس جدول أعمالها.
(فالإرهاب) على حد وصفهم أصبح أحد مكونات الموقف الدولي، وصار جزءاً من العلاقات الدولية، وأصبحت مواجهته تتطلب جهوداً دولية تقودها الدولة الأولى في العالم.
وخطورة هذا (الإرهاب) بالنسبة لأميركا والغرب لا تكمن في ما يُشاهد على الأرض من بعض الأعمال العسكرية التي تقوم بها بعض الخلايا المبعثرة هنا وهناك وحسب، بل تكمن في المجهول المخيف الذي ينتظر الغرب قدومه من تحت الأرض، فهذا المجهول بالذات هو الذي يعكِّر نظرتهم إلى مستقبلهم، والذي لا يدرون طبيعة وحجم مخاطره عليهم. فهم يخشون أن ينجح المسلمون في إقامة دولة إسلامية حقيقية تعبِّر عن توجه مجتمعاتهم الجارف نحو الإسلام السياسي والجهادي، ونحو معاداة الغرب، ولعل ريتشارد مايرز رئيس هيئة الأركان الأميركية قد عبَّرَ عن هذه الخشية أمام لجنة في الكونغرس الأميركي بالقول: «إن هذه الحركات الإسلامية المتطرفة هدفها إقامة نظام الخلافة في المنطقة والعودة إلى القرن السابع» وعندها سوف تقوم هذه الدولة بنفسها بإدارة المعركة، وإدارة ما يسمونه (إرهاباً)، وهذا ما يقلق الغرب فعلاً.
ثالثاً: استغلال أميركا لتفوقها الكاسح في الموقف الدولي بعد زوال الاتحاد السوفياتي جعلها تفكر ملياً بالهيمنة على جميع دول العالم بلا استثناء، والطريق إلى هذه الهيمنة يمر من الشرق الأوسط؛ لأن السيطرة على منطقة الشرق الأوسط والإطباق عليها لا تعني السيطرة على المسلمين في تلك المنطقة وحسب، بل تعني أيضاً السيطرة على أوروبا وروسيا وكل دول العالم. فهذه المنطقة هي مفتاح المستقبل لكل دول العالم، فمن حاز المفتاح تحكم في العالم. فبحجة تلافي الخطر الإسلامي المنبعث من هذه المنطقة، والذي يهدد الدول الكبرى والصغرى بوصفه خطراً مشتركاً داهماً، بهذه الحجة يجب إذاً على الجميع الانضواء تحت راية أميركا، ولذلك فمن حق أميركا -كما تدعي- أن تتفرد بقيادة العالم لكي تمنع هذا الخطر!!.
رابعاً: فرض السيطرة الأميركية الدائمة على منابع بترول الشرق الأوسط، والذي يمثل ثلثي نفط العالم ويزوده بالطاقة، لذلك كان نفط الشرق الأوسط من حيث الحجم والنوع والموقع والإمدادات، لا غنى عنه للعالم ولا بديل له على الأقل لمدة الخمسين سنة القادمة.
هذه هي الأسباب الحقيقية للمبادرات الإصلاحية، أما الأسباب التضليلية لها فقبل الخوض فيها لا بد من بحث مقدماتها لكي يسهل كشف أهدافها، فبدايات هذه المشاريع كانت اقتصادية، فوجد أولاً المشروع الأوروبي المسمى (بالمبادرة الأورومتوسطية) وانطلق من برشلونة رسمياً في العام 1995م، ثم تبعه المشروع الأميركي المسمى بمبادرة (الشراكة الأميركية الشرق أوسطية) كردٍّ على المشروع الأوروبي. ثم تطورت هذه المشاريع الاقتصادية إلى مشاريع سياسية، فجاء مشروع كولن باول لدعم الديمقراطية وإشراك المرأة، ورصد له مبلغ 29مليون دولار، وأخيراً جاء مشروع (الشرق الأوسط الكبير) في شباط من هذا العام 2004م ليكون تتويجاً لهذه المشاريع، وشاملاً للجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وتم عرضه ومناقشته في مجموعة الدول الثماني الكبار، وفي مؤتمر حلف الناتو، ومع الاتحاد الأوروبي.
حاولت أوروبا في البداية التنافس مع أميركا على هذا المشروع من خلال رؤية قدَّمها وزير خارجية ألمانيا يوشكا فيشر، وتبنت هذه الرؤية فرنسا وألمانيا، وحاولتا جعله مشروعاً أوروبياً، لكن أميركا ضغطت على الأوروبيين، واسترضتهم، ليكون مشروع (الشرق الأوسط الكبير) هو مشروع الجميع، وهو المشروع الوحيد الذي سيعرض على دول المنطقة، ثم صارت أميركا تروج للمشرع وكأنه نموذج جديد عن اتفاقية هلسنكي التي عقدها الغرب مع دول أوروبا الشرقية في العام 1975م، والتي ساهمت في إسقاط الشيوعية فيما بعد.
لكن اتفاقية هلسنكي التي وُصِفت بأنها اتفاقية ناجحة بكل المقاييس، كانت تعتمد في نجاحها على عاملين اثنين هما:
1- القوى السياسية المعارضة للشيوعية والموالية للرأسمالية، والتي كانت معبأة فكرياً ضد الاتحاد السوفياتي في دول أوروبا الشرقية الاشتراكية.
2- وجود ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني النشطة والجاهزة للمشاركة في تطبيق الرأسمالية بشكل مباشر.
ومثل هذين العاملين مفقودين تماماً من دول الشرق الأوسط التي تدين شعوبها بالإسلام. فالقوى الشعبية والسياسية المعارضة فيها تعادي أميركا والغرب عداءً شديداً، ومؤسسات المجتمع المدني فيها مؤسسات ميتة عديمة التأثير، لأن هياكل الحكم في البلاد الإسلامية هياكل فارغة من أي مضمون. وهي وإن كانت تعتبر ديمقراطية شكلاً، إلا أنها من حيث الجوهر أنظمة دكتاتورية تعتمد على العشيرة أو الفرد، ولا يوجد لها ضوابط دستورية أو قانونية أو فكرية.
صحيح أن هذه الأنظمة تحاول مراضاة أميركا فتقوم بمحاكاة الغرب في الإصلاحات المطلوبة منها، لكنها لم تنجح في ذلك، فمثلاً تحاول هذه الأنظمة جاهدة أن تعمل على إيجاد مؤسسات مجتمع مدني كما هو عند الغرب، ولكن هذه المؤسسات لا تصلح لتولي أية سلطات في المستقبل. ومثلاً تحاول إيجاد نظام انتخابي على الطريقة الغربية، ولكنه لا يمكن إلا أن يكون غير نـزيه، ومثلاً تحاول إيجاد نظام قضائي مفصول عن الجهاز التنفيذي كما هو الحال في الدول الغربية، ولكنه يبقى دائماً جزءاً منه لا يملك الانفكاك عنه.
وهكذا نجد أن سابقة هلسنكي التي نجحت في أوروبا الشرقية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ستفشل مثيلاتها قطعاً في بلاد المسلمين. لذلك نجد أميركا كعادتها عند فشلها تسعى إلى الالتفاف حول الفكرة، والتي تدعي بأنها يجب أن تنبع من الداخل، وذلك من خلال قيامها بأعمال الغزو العسكري، وفرض الإصلاحات على هذه الدول من الخارج، وذلك كما حدث في أفغانستان مع قراضاي وإصلاحاته، أو كما حصل في العراق مع حكومة علاوي وإصلاحاتها!![/b]